على الرّغم من بداياته الصّعبة والمؤلمة، انقضى الأسبوع الأوّل من تشرين الأوّل/أكتوبر الجاري في تونس بنهاية سعيدة وغير متوقّعة. فبعد تعرّضهم لصدمات متتالية تراوحت بين تلويح إعلامي شهير بكشف حقائق مدوّية ومحاولة اغتيال نائب بالبرلمان، اهتزّ التونسيون يوم الجمعة الماضي لخبر منح جائزة نوبل للسلام هذا العام 2015 إلى "الرّباعي الرّاعي للحوار".
وما بين مهلّل ومكبّر لهذا الحدث التاريخي وناقد ساخط على الجهة المانحة أو بين ساخر متهكّم من الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي جاء فيه التكريم، قضّى التونسيون نهاية أسبوع حافلة بردود الأفعال المتباينة.
في صبيحة الجمعة 9 تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري أعلنت لجنة نوبل للسّلام منح الجائزة للرّباعي الرّاعي للحوار في تونس، معلّلة قرارها بكون الائتلاف الرباعي قام في صائفة 2013 بتنظيم حوار وطني طويل وصعب بين أطراف الحكم والمعارضة، وذلك في ظلّ موجة اضطرابات اجتماعية واغتيالات سياسية خطيرة أثّرت على عملية الانتقال الديمقراطي.
ويتكوّن الرّباعي من 4 منظّمات هي الاتحاد العامّ التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وقد كان له الفضل في جمع الحساسيات السياسية المختلفة حول طاولة "الحوار الوطني" الذي انطلق في 5 تشرين الأوّل/أكتوبر 2013 بدعم من الرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والمجلس الوطني التأسيسي).
اقرأ/ي أيضًا: نوبل للسلام.. حصة رباعي الحوار التونسي
وبمجرّد الإعلان عن الجهة الفائزة، سارعت الهيئات الأممية والسفارات العالمية إلى تهنئة الشعب والحكومة التونسيين بهذا التكريم الذي يتوّج المسار الانتقالي. رحّبت منظمة الأمم المتّحدة بفوز الرباعي الراعي للحوار بنوبل للسلام، وذلك لـ"مساهمته في بناء الديمقراطية بتونس". كما سارعت السفارة البريطانية إلى تهنئة تونس شعبًا وحكومة. أمّا الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند فقد تفاعل مع الخبر بالقول إنّ "جائزة نوبل للسلام تكرّس نجاح العملية الانتقالية نحو الديمقراطية في تونس". موقف تشابه مع تصريح مفوّضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني التي اعتبرت "منح الجائزة لوسطاء الحوار نموذجًا يحتذى به للخروج من الأزمات في المنطقة".
ردود الفعل العالمية هذه، قوبلت بكثير من الفخر والاعتزاز لدى الطبقة السياسية في تونس وشرائح واسعة من المجتمع بنخبته المثقّفة وعامّته المنشغلة بمتابعة الأوضاع سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
سارعت الهيئات الأممية والسفارات العالمية إلى تهنئة الشعب والحكومة التونسيين بجائزة نوبل للسلام
وألقى رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي كلمة بالمناسبة اعتبر فيها حصول الرباعي الرّاعي للحوار على جائزة نوبل للسلام "تكريمًا لمنهج الحوار وتكريسًا لسياسة الحلول التوافقية التي اعتمدتها تونس". ووصف رئيس الحكومة الحبيب الصّيد التكريم بـ"مصدر فخر لجميع التونسيين الذين ضحّوا كثيرًا من أجل الحرية ". أمّا رئيس حركة النهضة، الشريكة في الحكم، راشد الغنوشي فقد بارك جهود الرّباعي التي "جنّبت تونس الاقتتال والتناحر"، مضيفا أنّه "يستحق التكريم بكلّ جدارة".
ولم تشذّ بيانات سائر الأحزاب الحاكمة أو المعارضة التي توالت تباعًا، تفاعلًا مع الجائزة، عن هذا الموقف الرسمي الذي يعتبر الحصول على نوبل للسلام نقطة مضيئة في سماء تونس.
أمّا على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، والذي بلغ عدد المنخرطين فيه من التونسيين المليونين ونصف منخرطًا عام 2011، فقد كانت المواقف أكثر تباينًا لتكشف أن حتّى جائزة نوبل للسّلام عاجزة عن تقريب وجهات النظر أو وقف موجات السخرية التي يصطلح عليها في تونس بـ"التنبير".
أعلنت الأستاذة الجامعية والباحثة ألفة يوسف أنه: "يمكن لمن يشاء أن يفرح بهذه الجائزة ..ولكن شخصيًا لا تهمّني كثيرًا جوائز نوبل، نعرف خفاياها منذ رفض جون بول سارتر جائزة الآداب منذ سنين"، مضيفة أنّها "ستفرح عندما يعمّ السّلام الفعلي تونس. وسيكون ذلك الجائزة الكبرى"، حسب تعبيرها.
كانت المواقف من جائزة نوبل للسلام أكثر تباينًا على مواقع التواصل الاجتماعي
على النقيض من موقف زميلتها، وصفت رجاء بن سلامة، وهي بدورها أستاذة جامعية وباحثة، التونسيين "الممتعضين" من جائزة نوبل بكونهم "أصحاب نظرية المؤامرة ممّن يستخفّون بالثورة التونسية"، موضّحة أنّهم "لا يعجبهم العجب وينشرون الكآبة السياسية من حولهم."
ولئن بدا موقفا أستاذتين جامعيتين بمثل هذا التباين، فإنّ مواقف بقية روّاد الموقع الاجتماعي أكثر زخمًا وأشدّ تناقضًا من جهة الترحيب بالحدث أو "التنبير عليه" أي السخرية منه. ففي حين وصف المؤرّخ عادل اللطيفي تكريم وسطاء الحوار الوطني بجائزة نوبل للسلام بكونه "تتويجًا للدولة الوطنية ولقواها الحية ولنخبها ولتعليمها الحديث"، اعتبر الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية الأمين البوعزيزي أنّ التونسيين قد أصبحوا عرضة لـ"إرهاب جديد" يمارسه عليهم الرباعي الرّاعي للحوار، واصفًا هذا الأخير بـ"رباعي الوصاية والاستحمار".
ولم تسلم المنظّمات المكوّنة للرّباعي والشخصيات المترئسة لها من "تنبير" التونسيين. فقد سخر البعض من الأمين العامّ للاتّحاد العامّ التونسي للشغل حسين العبّاسي، زاعمين أنّه "تحصّل على أهمّ جائزة دولية في حين أنّه لم ينه تعليمه الابتدائي". بينما تنبّأ البعض الآخر بأن ترتكب رئيسة الاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وداد بوشماوي زلّة لسان فادحة خلال الحوارات التي ستجريها معها وكالات الأنباء والمؤسسات الإعلامية الأجنبية، في إشارة إلى عدم إتقانها اللغة الانجليزية.
أمّا رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عبد الستّار بن موسى، فقد كان له نصيب الأسد من السخرية. إذ مثّل حصوله وبقية أعضاء الرّباعي على نوبل للسلام فرصة لإعادة نشر مقطع فيديو يعود لتاريخ الإعلان عن تأسيس "الحوار الوطني" عام 2013، ويقول فيه بن موسى إنّ "الحمار الوطني- يقصد الحوار الوطني- سيوصلنا إلى برّ الأمان".
من جهته، فسّر الباحث في الحضارة العربية والإسلامية سامي براهم نزوع شرائح عديدة من المجتمع التونسي إلى السخرية والتهكّم بكونه "تعبيرًا عن موقف سياسي بأسلوب طريف يعكس ما يعتمل من النفوس من ألم باطني أو شعور بالغبن. ومردّ ذلك اعتبار هؤلاء أنّ الحوار الوطني، الذي أطلقه الرباعي المتوّج، لم يكن سوى انقلابًا ناعمًا على حكومة منتخبة". وهو فهم يعتبره براهم ضيّقًا ومحدودًا لأنّ البلاد كانت في حالة انقسام حادّ غير أنّ الحوار الوطني، وهو مبادرة سياسية مدنية لا عسكرية ولا أمنية، نجح في الإحاطة بها في حين فشلت كلّ من الشرعية الانتخابية وشرعية الشارع.
لكن سخرية السّاخرين، أو "تنبير النبّارة" بالتعبير التونسي، لا يبدو أنّها نجحت في هزّ معنويات الرباعي الراعي للحوار أو تنغيص فرحته بالتتويج التاريخي، إذ أعلنت رئيسة منظمة الأعراف وداد البوشماوي أنّ المنظّمة ستهدي نصيبها من الجائزة المالية المقدّرة ب972 ألف دولار إلى تونس. أمّا أمين عامّ المنظّمة الشغيلة حسين العباسي فقد أهدى الجائزة بأسرها إلى شهداء ثورة 14 يناير/ جانفي 2011.
هي إذًا جائزة مثّلت بلا ريب محلّ تجاذب في الدّاخل التونسي، لكنّها قد تنجح ولو لبعض من الوقت في أن تزيح من ذاكرة شعوب العالم تلك الصورة القاتمة التي بدت بها تونس مؤخّرا في الإعلام الأجنبي أرضًا خصبة لـ"تفريخ" الإرهابيين و"تصديرهم" إلى بؤر التوتّر، لتحلّ محلّها صورة بلد صغير يحمل إلى العالم رسالة سلام.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. حراك بطعم الانقسام