إعداد: سفيان البالي ومها عمر
تعد تشيلي أكثر بلدان أمريكا اللاتينية التي عاشت منعرجات خطيرة طبعت مسارها التاريخي، ورغم كونها من أقدم ديمقراطيات القارة، إلا أنها سقطت مرغمة في حقبة دامية مديدة من الديكتاتورية العسكرية، على يد جنرالها الانقلابي أوغستو بينوشيه، والذي أسقط بدوره بعد كفاح شعبي عسير لتعود الديمقراطية إلى البلاد سنة 1990.
كانت الحركة النسوية التشيلية أحد أبرز مكونات المشهد النضالي العام في البلاد، وبالتالي عايشت فترة القمع الدموي بما يجعلها في كامل الجاهزية كي تواجه استجداد هذا القمع
طوال هذا المسار التاريخي الحافل بالتقلبات السياسية، كانت الحركة النسوية التشيلية أحد أبرز مكونات المشهد النضالي العام في البلاد، وبالتالي عايشت فترة القمع الدموي بما يجعلها في كامل الجاهزية كي تواجه استجداد هذا القمع. وهذا ما شهدناه مؤخرًا والبلاد تنتفض من جديد ضد رئيسها الحالي، حيث لم تغب النساء عن هذا النضال الاجتماعي، متخذات منه منصة لإطلاق الصرخات المنددة بوضعيتهن، صرخات أبرزها تلك التي أطلقتها حركة Las Thesis تحت عنوان: "المغتصب هو أنت!".
اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات عالمية على شروط معولمة.. السترات الصفراء أطلقت الشرارة
لم تضل هذه الحركة الاحتجاجية مقتصرة على بلدها الأول، تشيلي، بل غادرته لتمثل صرخة نسوية عالمية. في هذه المقابلة، نستضيف الدكتورة راكيل أوليا، أستاذة النقد الثقافي والأدبي بجامعة سانتياغو، والمهتمة بدراسة الحركات النسوية بالبلاد، كي تعيد أمام أعيننا رسم المسار التاريخي للنسوية التشيلية ودورها في الانتفاضة الحالية، كما تقدم قراءتها لحركة Las Thesis وتظاهرة "المغتصب هو أنت".
سيدة أوليا، لنبدأ مقابلتنا بالسؤال التالي: كيف يمثل الاغتصاب أداة للقمع السياسي في تشيلي؟
في عهد دكتاتورية بينوشيه، كان العنف الجنسي ضد النساء، والرجال أيضًا مع أنه كان بنسب أقل إلى حد ما، يمارس بشكل منهجي من قبل أجهزة الدولة، بشكل تتساوى في التعرض له الناشطات الحقوقيات والمعتقلات السياسيات. وقد اشتغلت مجموعات نسوية، كمجموعة "نساء مقاومات.. دوما ناجيات"، على توثيق وإبراز هذه الحقائق، من أجل تصنيفها ضمن "التعذيب الممنهج" وبالتالي تجنب إفلات المذنبين من العقاب، والتطبيع معهم اجتماعيًا.
منذ ذلك الوقت لم يختبر المجتمع التشيلي سياقًا جديدًا من القمع، كتلك الكوابيس التي عاشها خلال التمرد الشعبي الذي يستعر منذ 3 أشهر، وفيما بات يطلق عليه الآن "الانفجار الاجتماعي"، بفعل طابعه العنيف وما اكتنفه من مواجاهت دامية. لهذا السبب كان من الصعب تخمين الكيفية التي سيتصرف وفقها النظام الحاكم، أو ما حجم الاستفزاز الذي قام به الشارع لينتج عنه في المقابل كل هذا العنف والقمع الذي قامت به الشرطة وقوات حفظ الأمن.
لكن سرعان ما تأكدت لنا حقيقة أنه لم يكن هناك عمل حقيقي وقوي لتجنب العودة إلى أشكال الاعتداءات التي مورست من قبل، بمعنى أنه لم تكن هناك سياسيات عامة لحماية حقوق المدنيين، ولم يتم تأهيل الشرطة بشكل كاف للتعامل مع المدنيين، ولا حتى وضع بروتوكولات، أو وسائل رقابة على طرق التعامل مع السجناء المدنيين. على النقيض تمامًا، حيث تحققنا كنشطاء من وجود جملة من الانتهاكات في هذا العهد داخل الشكل الديمقراطي الحالي، على نفس النسق الديكتاتوري القديم.
في قضية العنف الجنسي، يتموضع الاغتصاب بصفته ساحة للسلطة الأبوية على جسد المرأة، سواء أكان ذلك من خلال التحكم في جسدها للإنجاب، أو بسبب نقص التقدير المُعطى للجسد العامل على التربية ورعاية الطفولة، يظهر ذلك من خلال "تشييء المرأة كأداة للجنس"، أو تصنيفها داخل أطر العمل كدرجة ثانية. في رأيي فإنه يمكن اعتبار النظرة إلى جسد المرأة من خلال الفضاء العام واللغة، والصورة الذهنية، مجموعة من العناصر التي تدخل ضمن إطار النظرة الاجتماعية الكبيرة لرؤية المرأة فيزياءً كجسد، واعتباريًا كموضوع للسلطة.
وتكمن القراءة الذكورية لجسد المرأة من خلال وجود سلطة أبوية أعلى تُمنح القوة المطلقة لممارسة العنف عليها، ليس فقط من خلال عقابها من خلال جسدها وإنما أيضًا من خلال تحفيز قانون يساعد على الإفلات من العقاب. وهكذا تحول العنف الجسدي ضدها إلى علامة ثقافية متجذرة بعمق في ضمير المجتمع.
- عودة بالزمن، ما الدور الذي لعبته الحركة النسوية التشيلية في مقاومة الديكتاتورية؟
في سبعينات القرن المنصرم، وبعد الانقلاب العسكري في تشيلي وقيام ديكتاتورية بينوشيه المتوحشة، وجدت النساء أنفسهن في حاجة إلى العمل المنظم لحماية أنفسهن في المقام الأول، وكوسيلة للبقاء على قيد الحياة، وثانيًا من أجل استعادة الديمقراطية، ووقفن جميعًا جنبا إلى جنب، فكنت تجد حركات حقوق الإنسان جنبًا إلى جنب مع حركات الناجين وحركات اجتماعية أخرى مثل (حركة الماعون المشترك أو Ollas comunes والتي كانت تركز على توفير الاحتياجات الأساسية من الطعام خاصة في أوقات الحروب والأزمات الاقتصادية الكبرى، وحركات البحث عن الأقارب والسجناء والمختفين قسريًا)، لذا كان هناك الكثير من العمل النسوي المنظم، في هذا السياق تمكن التاريخ النسوي السياسي من الحفاظ على نفسه، وتم له التوثيق، كما تم توثيق وكتابة الدوافع وراء صمت النساء بعد حصولهن على حقهن في التصويت.
الحركة النسوية إبان الديكتاتورية كانت حركة قوية وواسعة، كانت ذات جبهات متعددة وقوة وتأثير ثقافي وسياسي كبير. مئات من تلك المنظمات اضطلعت بالانتشار من خلال ورش العمل والحديث مع الشارع، والتغلغل في منهجيات التعليم، والمقاومة السياسية الشعبية، والالتصاق بالعمل على مستوى القاعدة الشعبية، وعلى المستوى الحزبي السياسي. على إثر ذلك تعرضت المئات من النساء للاعتقال والتعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري والكثير من سنوات الرعب التي لا تُنسى.
كان لتلك المنظمات أيضًا دور مقاوم في استعادة الديمقراطية والمساهمة في إعداد المطالب الشعبية وهندستها من خلال الخطط والبرامج. والجدير بالذكر أيضًا، وعطفًا على ما سبق فإن الحركة النسوية ليست حركة ذات طابع ارتجالي عفوي، بل هي حركة ذات عمق تاريخي، ساهمت حتى في فترات الانتقال إلى الحكم الديمقراطي بإنشاء برامج النوع الاجتماعي، وتغلغلت في الفنون والأدب، لإعادة هيكلة خطابهما ولتفكيك الخطاب الذكوري. لكن النوعية الليبرالية الجديدة التي تتحدث باسم السوق الحر والمستهلك نزعت الطابع السياسي من الحركة، وحولتها إلى حركات فارغة في بعض الأحيان تفتقد إلى طابعها الشعبي التضامني.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تحولت أغنية تشيلية إلى نشيد أممي؟
- على غرار السؤال السابق، في الثورة الحالية في تشيلي، كيف يبدو دور المرأة الآن، كيف يُرى من خلال الآخرين، وكيف يمكن وصفه؟
تبذل النساء الآن أقصى جهد للتعبير عن أفكارهن بطرق منظمة، وخاصة في الدستور الجديد، ومن أجل ضمان تمثيلهن على قدم المساواة في المجلس التأسيسي الذي يفكر ويكتب، جنبًا إلى جنب مع أقرانهن الذكور، وهن بتواجدهن يحاولن أن يجعلن من قضايا الظلم الاجتماعي التي تعيشها المرأة جزءًا من أولويات الدستور الجديد، والتي ستشكل في جوهرها أسس التعايش الوطني. تلك المطالبات تمتد لتشمل الرعاية الصحية لهن، وحرية الحصول على إجهاض آمن. هذا بخلاف حضور النساء النشط في مواجهات الشارع مع الشرطة في محاولة لإنهاء القمع و فضح انتهاكات حقوق الإنسان.
- هل يمكن اعتبار "las Tesis" الحركة النسوية التشيلية الوحيدة في التمرد التشيلي ضد النظام السياسي؟ أم يمكن أن يكون هناك حركات أخرى؟
من مكتسبات الثورة التشيلية الحالية أنها أرجعت المجتمع مسيسًا مرة أخرى، وقد لعبت الحركات الاجتماعية التي نظمت نفسها في السنوات الأخيرة دورًا في إبراز نشاطها مرة أخرى على الساحة: مثل الحركات التي دعت إلى تعليم ذي جودة عالية وغير متحيز جنسيًا، والحركات الداعية إلى تحسين الصحة العامة ورفع جودتها، وحركات التحرر المثلي الجنسي، والحركات التي انطلقت بقوة وخاصة عام 2018 الرافضة للعنف الجنسي ضد المرأة في المؤسسات العامة وفي الشوارع.
وتكمن فكرة نجاح حركة الأطروحات أو لاس تيسيس، في أنها تقودها مجموعة من الفنانات اللاتي استخدمن فن الشارع المسرحي، بحيث يحكين معاناتهن ومطالبهن من خلال كلمات تتناغم مع حركة الجسد الجادة الرافضة، تدين الجاني وتشير له بضمير "أنت"، وتستنكر وتتهم مباشرة السلطة الأبوية الذكورية في الدولة والقضاء، ووكلائها من القائمين على تصنيف المرأة وتشييئها وممارسة العنف ضدها.
- في نظرك ما الجديد الذي تتميز به Las Tesis كحركة نسوية عن ME Too. وكيف تقرأين هذا الفارق بين الحركتين خاصة في بعده الإنساني والسياسي؟
حركة Me Too حركة استخدمت النداء اللفظي للتنديد بالإيذاء الجسدي والجنسي للمرأة ضد الإهانة الجسدية لأجساد النساء في مجال العمل، والحركة عمومًا استفادت من المشاهد التليفزيونية وغيرها من الحالات العامة مع تسليط الضوء على الأسماء ذات الشهرة الكبيرة للرجال الذين مارسوا اعتداءاتهم على النسوة، اللاتي رفضن بفضحهن لممارسات هؤلاء الرجال سنوات من الصمت، وحصلن في كثير من الحالات على إدانات مباشرة لتلك الأسماء الكبيرة، التي استخدمت حصانتها من خلال الشهرة ضدهن لسنوات.
أما لا تيسيس، فلا تهتم بإدانة شخص بعينه، ولا أسماء بعينها، كما لا تضع الحركة المرأة في موضع الضحية وهدفها تفكيك السلطة الأبوية للذكر التي تتحكم في جسد المرأة. "إن البطرياركية هي قاضي مجتمعنا/ تحاكمنا بسبب جنسنا الذي نولد به". هذا من كلمات الحركة، كما تتهم الحركة الدولة كتنظيم كبير تساهم سياساته في تورطه المباشر في الأمر من خلال إجراءاته التي تساعد على الإفلات من العقاب، وغياب القوانين الرادعة، وذلك للرد على المجتمع الذي يتهم الضحية بسبب نوعية ملابسها أو شكلها أو الشارع الذي كانت تمشي فيه. تقول الحركة في أحد كلماتها: "لا يهم كيف كنت/ وماذا لبست/ ولا أي كنت أمشي/ المغتصب هو أنت".
اقرأ/ي أيضًا: دول الأمريكيتين تنتفض.. الاحتجاجات الشعبية تتوسع من تشيلي إلى هايتي
حركة الأطروحة أو لا تيسيس، حركة ضد القمع السياسي لها وجهان مميزان، إحداهما الفن والآخر وجودها في الشارع. هل لها مستقبل؟
ألهم أداء الحركة النساء ليس فقط في تشيلي، ولكن في مدن وأماكن مختلفة، وكأنه تأييد عالمي بين النساء لأهمية الحركة، وشكلها كتمظهر للفن والسياسية على خشبة مسرح الشارع، أما مستقبلهم فلا يمكن التنبؤ به كمجموعة فنية وسياسية. سوف يستمرون في الإنتاج على ما أظن وآمل أن يظلوا، من خلال الذكاء المفاهيمي والحساسية ذاتها، ممثلين جماليًا وسياسيًا عن رغبات النساء في الحرية.
في عهد دكتاتورية بينوشيه، كان العنف الجنسي ضد النساء، والرجال أيضًا مع أنه كان بنسب أقل إلى حد ما، يمارس بشكل منهجي من قبل أجهزة الدولة
- نعلم أن الذاكرة الجماعية انتقائية، لأنها تتذكر أشياء وتنسى أخرى: في الغناء التمثيلي لحركة "الأطروحة" ما الذي سيبقى في ذاكرة الناس؟
ما سيبقى سيكون في الذاكرة التي سترصد تجربة وعي جمعي سياسية، حيث الوحدة التي تتقاطع فيها المشتركات الإنسانية، وكأنه عرض لطقوس تمكين حرية التعبير، وكون تلك أولئك النساء جزء لا يُنسى من الحركة النسوية في تشيلي.