لو أنَّ كل ضحية تنبيك عمّن أسهموا في القتل،
مَن يدري؟
لعل ملامح الوجه المقاتل فيك أقرب قاتليها!
فوزي كريم، الشاعر والناقد والتشكيلي العراقي الممزوج بالمنفى، أعطى ما للشعر للشعر، وما للنقد للنقد، وما للفن للفن، وهو بهذا كله يشعر بالنقص ذلك أن الكمال نقصٌ بذاته وأن النقص كمالٌ هو الآخر.
"مَن يخاف مدينة النحاس؟" (منشورات المتوسط 2018) الرواية الوحيدة التي كتبها فوزي كريم تحت عامل التوتر تارة، والخوف أو التكاسل من دخول السرد الروائي تارة أخرى، رغم قراءاته الكثيرة للقصة القصيرة والرواية وكتاباته المكثفة في مجال حقل النثر النقدي.
تتحدث رواية "من يخاف مدينة النحاس؟" عن شاب مولع بقراءة الكتب القديمة يقع على خبر مدينة النحاس في أحد مناحي المغرب العربي، في كتاب مروج الذهب للمسعودي
صحيح أن اللغة الشعرية عند فوزي كريم تطغى على اللغة النثرية، لكن الشعر عنده يقيّده عكس ما يكون في كتابته للرواية، فيقول: "كنتُ أشعر أن الكتابة الروائية تنطوي على متعة، تذكّرني بمتعتي حين أكتبُ النثر النقدي. على خلاف ذلك، حين أنصرف لكتابة القصيدة؛ لأني معها يُثقل عليَّ إجهادٌ، وكأني في معترك، ربما مع اللغة. اللغة في الرواية مستسلمةٌ بصورة تامة لقدراتي. في الشعر، تقف طرفًا في معترك، حتى لأبدو، أنا الطرف الآخر، مستضعفًا". فهذا النقيض الآخر المستضعف في الشعر يملي عليه ما كان وما يكون من حيرة تُحتّم عليه القبول بالضعف أو التقييد عند كتابة القصيدة.
مَن يخاف مدينة النحاس؟ سؤالٌ بديهيٌّ، سؤالٌ في المعنى والمبنى لكنه ينبيك أن الجميع يخاف المدن والهويات القاتلة، كما يسميها أمين معلوف، لا مدن الحرب فحسب، بل مدن التراث العتيقة.
إنَّ هذه الرواية كما يذكر فوزي كريم كانت في الأصل قصة قد كُتبت عام 1987 تحت عنوان "مدينة النحاس" ونشرها في مجلة "الاغتراب الأدبي" في العام ذاته، ثم نشرها مع نصوص حكائية أخرى في كتاب، تحت العنوان ذاته، في دار المدى عام 1995. يقول: "حين كتبتها، ونشرتُها في مجلة وكتاب، كنتُ أشعر عميقًا بأني إنما كتبتُ مخططًا موجزًا لرواية. وبقي هذا الشعور يلازمني سنواتٍ، كلما تذكرت القصة، أو وقعت عيناي عليها صدفة. ولكني لم أحاول مرة أن أجرب على الورق حتّى كتابة مطلع لهذه الرواية، التي أشعرها - بصورة من الصور - تتنامى في رأسي عبر السنوات. ألأني لم أجرب كتابة الرواية من قبل؟! أم بدافع الكسل ربما؟!".
يتضح مما سبق ذكره أنّ فكرة الرواية كانت جاهزة في داخله منذ عام 1987، أي منذ كانت قصة قصيرة. وفي عام 2016 وبعد أن ساءت حالة فوزي الصحية عاود الكتابة مرة أخرى ليكمل الطين الأزلي ويصنع منه رواية خارج نطاق الخوف من مدن النحاس، مدن مؤطرة بإطار من وهم التاريخ.
تتحدث رواية "من يخاف مدينة النحاس؟" عن شاب - الذي هو الراوي نفسه - مولع بقراءة الكتب، والكتب القديمة بشكل خاص، وتحديدًا كتب التراث العربي الإسلامي. مرة يقع على خبر مدينة النحاس في أحد مناحي المغرب العربي، في كتاب مروج الذهب للمسعودي، فيؤخذ بهذه الحكاية الأسطورية. مدينة النحاس، كما جاءت في الرواية: "مدينة كل بنائها من نحاس، بصحراء سلجماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب. وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها إذا أشرف على الحائط، صفّق، ورمى بنفسه، فلا يرجع آخر الدهر". يظل طيف مدينة النحاس يرافق هذا الشاب في كل شاردة وواردة، على شكل كوابيس ورؤى وأحلام. ويظل حلم الهوية يؤرقه، الهوية/ الفردانية /المستقلة، الخالية من الانتماءات الطائفية والحزبية. كأني بفوزي كريم، الذي عاش حرًّا دون انتماءات طوال حياته، كأني به يُلبس جسده وفكره وثقافته للشاب البطل، حتى في علاقة حبه أو مشروع الحب كما يسميه، مع ملاذ، ملاذ هذا الاسم الذي يضفي الأمان على حياته غير الآمنة وغير المكتملة.
"من يخاف مدينة النحاس؟" رواية تستنطق جدل الهويات، وتفتح أبواب التأويل على مصراعيها: مرة تكشف الاغتراب الداخلي والخارجي في آن واحد، ومرة تكشف أبعاد التراث القديم وربطه بالمعاصرة
تبدأ ملامح الاغتراب/ الداخلي، في الرواية بانعزال البطل داخل غرفته مع كتبه بالرغم من علاقته الطيبة مع أمه وأخيه وزوجة أخيه. ثم يأخذ هذا الاغتراب بالتوسع عند دخول هذا الشاب، المأسور بالكتب، إلى "حسينية كرادة مريم" بمنطقة العباسية - المنطقة الخضراء حاليًا - والتي تضم مكتبة غنية بكتب التراث. وصار يزورها أكثر من مرة في الأسبوع، وأحيانًا كل يوم، حتى تسلّم إدارة المكتبة. ثم تتسع دائرة الاغتراب والخيفة مع بدء ظهور غربان الأحزاب: الفاسدة، القاتلة، المتمسكة بمبدأ الدم الذي لا ينتهي. يبدأ أقرانه من المتحزبين باللف والدوران حول الشاب ليستميلوه للانضمام إلى الحزب/ المسلّح، وهنا يصبح أمام خيارين: إما أن يهرب خارج البلاد، أو ينضم إلى الحزب وفي حالة انضمامه فإنه بذلك يترك أفكاره ومواقفه التي ربّى نفسه بنفسه عليها ويتحول إلى أحد وحوش الأحزاب الكاسرة.
كلما زادت قراءة الشاب/ البطل للكتب كلما زاد الاغتراب ودق ناقوس الخطر تحت تهديد جديد، حتى يأخذ/ يجد البطل نفسه هاربًا إلى باريس حيث المكان غير المكان والأضواء غير الأضواء. لكن البحث يظل مستمرًا، دون جدوى، عن حكاية مدينة النحاس، وعن كتاب مروج الذهب للمسعودي حيث يظل مشدودًا إلى حكاية قديمة ترافقه في الحاضر.
"من يخاف مدينة النحاس؟" رواية تستنطق جدل الهويات الثقافية/ الوطنية، وتفتح أبواب التأويل على مصراعيها: مرة تكشف لك الاغتراب الداخلي والخارجي في آن واحد، ومرة تكشف لك أبعاد التراث القديم وربطه بالمعاصرة.
أخيرًا، هي رواية تأخذ، بل تُشرك القارئ في كتابتها عبر العصور المختلفة.
