افتتح المفكر العربي المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة، أعمال الدورة الرابعة من مؤتمر طلبة الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية، الذي ينظمه المركز العربي، اليوم السبت، بمحاضرة بعنوان "قضية فلسطين واللاسامية والمكارثية الجديدة".
وانطلق بشارة في المحاضرة الافتتاحية، بالإشارة إلى أن النقاش المتضامن مع فلسطين وغزة، يتحول إلى حالة دفاعية، مع تحويل موضوع اللاسامية واللغة المستخدمة في وصف الممارسات الإسرائيلية إلى مركز النقاش، مما يحول الأمر إلى موضوع آخر، وهكذا ينقلب كل الموضوع تمامًا.
وأشار بشارة، إلى أن هذا الأمر ليس عفويًا، وهناك جهات كثيرة تعمل على تنظيمه، وهي منظمة منذ عقود، أي المؤسسات التي تعمل على حرف الموضوع وتحويله من معاناة الناس في غزة والتضامن مع الشعب الفلسطيني، إلى موضوع متعلق بإسرائيل كضحية واللاسامية وتاريخ اليهود والألفاظ التي يجب أن تستخدم.
أكد عزمي بشارة على أن اللاسامية هي ظاهرة نشأت في أوروبا، وبعيدة عن حضارتنا العربية والإسلامية
ووصف بشارة ما يجري في الجامعات الغربية حاليًا، بأنه يشبه "المكارثية الجديدة"، ولكن الموجة الآن في الغرب كله وليس في الولايات المتحدة. ولفت النظر، إلى التحقيق مع رئيسات جامعات أمريكية، في الكونغرس الأمريكي، مشيرًا إلى أن نوع التحقيق، يشبه "تمامًا تحقيقات جوزيف مكارثي، من نوع الأسئلة والطريقة والعنف في السؤال والإحراج، والديماغوجية في التحقيق، وهي لغة سياسية تمامًا".
أمّا عن التعامل مع هذا النقاش، قال بشارة: "من الخطأ، التوقف عند الشكليات ونقل النقاش حول حرية التعبير، بدلًا من نقاش الموضوع في الجوهر، مثلًا: أي هل هذه إبادة جماعية؟ هل هذا عداء للسامية أم لا؟ هذه مواضيع يجب الدخول فيها، وعدم الخوف من الدخول فيها".
واعتبر بشارة، أن الحملة القائمة في الجامعات الأمريكية الآن، لها 3 أهداف، وهي: أولًا، تغيير الموضوع وتحويل النقاش من غزة إلى الهجوم على الطلاب في الجامعات الغربية. ثانيًا، تصفية حساب مع الفورة التي حصلت في مواقف الشباب في الغرب من قضية فلسطين، وقد تصبح مؤثرة بشكلٍ كبير في المستقبل، وهذا أمر يُراد إيقافه. ثالثًا، تصفية حساب مع التيار الليبرالي في الجامعات الغربية، الذي مارس ممارسات تعتبر تقييدًا لحرية التعبير، وساهم في موجة الشعوبية بالغرب، على مستوى موضوع الجندرية، وموضوع الصواب السياسي.
وفي هذا السياق، تابع مدير عام المركز العربي، قائلًا: "الأمر الرئيسي بالنسبة لنا، إن هذه معركة سياسية للتغطية على جرائم الاحتلال، التي يفترض أن تشغل الإنسانية، وليس موضوع اللاسامية، لأنه ليس موضوعًا مركزيًا في الغرب، ويحاولون افتعال ذلك وتحويله إلى موضوع مركزي، رغم أنه لم يعد كذلك، وأعتقد أنه بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد هو الموضوع، إذ لا يوجد خطر حقيقي اسمه معاداة السامية، ويوجد إجماع حول هذا الموضوع، وحتى على مستوى النظريات العلمية، مثل نظرية العرق فقد أفلست، ولم يعد هذا الموضوع حاضرًا لا في الجامعات ولا في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولكن يُفتعل من جديد، تحت عناوين أخرى وهي العداء لإسرائيل والصهيونية".
وتساءل بشارة، قائلًا: "ما هي مظاهر العداء للسامية في الغرب الآن؟"، موضحًا: "أن الموضوع مجرد محاولة لقلب الأمور وتغيير الموضوعات، لأن الموضوع الفلسطيني الذي عاد للواجهة بفضل تضحيات البشر في غزة وبجريرة الإجرام الإسرائيلي، هو موضوع رابح في الرأي العام، لأن الأمور واضحة. لكن احتكار دور الضحية وذرف الدموع في أثناء ارتكاب الجرائم، هو الهدف".
أمّا عن "العلاقة بين قضية فلسطين واللاسامية"، فهي بحسب بشارة قضية حاضرة نتيجة الاستخدام الإسرائيلي لها منذ البداية، بشكلٍ خاص استخدام الهولوكوست والنازية في الدعاية الإسرائيلية، عشية حرب 1967 وبعد هذه الحرب، انتشرت بشكلٍ واسع اتهامات لجمال عبد الناصر ولاحقًا ياسر عرفات وثم صدام حسين بتشبيههم بـ"هتلر"، إذ تستخدم هذه المصطلحات من أجل تغيير السياق، ويصبح السياق هو أن إسرائيل هي الضحية، وهؤلاء يريدون تكرار تجربة النازية.
وأكد بشارة، على أن "معاداة السامية، هي ظاهرة أوروبية"، مفرقًا بينها وبين ظاهرة "العداء للأقليات، أو العداء لليهود أو المسيحين أو المسلمين". مشيرًا إلى أن نشوء معاداة السامية، هو ظاهرة أوروبية، وصلت إلى بلادنا استيرادًا، وبشكلٍ هامشي، وهي مستوردة بوضوح وتظهر في فترات الأزمات، وحتى الحالات التي حصل فيها ملاحقة لأقليات دينية، لم تكن تحت عنوان اللاسامية ولا ميزت اليهود بشكلٍ خاص، ولا تقارن بظاهرة العداء لليهود في أوروبا في العصر الوسيط، ثم ببلوغها مرحلة اللاسامية في القرن التاسع عشر.
وفي سياق تاريخي، قال بشارة، إن أول تنظيم ألماني أطلق على نفسه "عصبة اللاساميين" ظهر في عام 1879، عن طريق صحفي ألماني، كتب كتابًا بعنوان "الطريق لانتصار العرق الجرماني على اليهودي"، متأثرًا بنظرية الأعراق، التي جرى التعامل معها في أوروبا، كأنها نظرية علمية.
وأوضح بشارة، أن العالم العربي والإسلامي، لم يعرف هذا الكلام، وهو تمامًا بعيد عن حضارتنا.
وعودة إلى السياق التاريخي، أشار صاحب كتاب "من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية"، إلى أن المصدر الأول لـ"اللاسامية" في أوروبا، هو المصدر الديني الذي يدور "حول أن اليهود صلبوا المسيح، وهو أمر استمر عند بسطاء الناس، وكانت الطبقات الحاكمة تستخدم هذا الجانب، ويتسرب من حين إلى آخر للحضارات الأخرى من أوروبا". أمّا المصدر الثاني، فهو النظرية العرقية، وهو سبب نخبوي، وفي النازية نفسها، كانت كراهية "اليهود نتيجة نفس النظرية العرقية". والمصدر الثالث، هو الطبقي والاجتماعي، وتمت معالجته في المدرسة الماركسية.
وتابع بشارة، مصادر معاداة السامية هذه كلها مصادر أوروبية، موضحًا: "تركيب اللاسامية على العرب والمسلمين، لا أساس له على الإطلاق. لكن منذ البداية جرت محاولات إلصاق اللاسامية على العرب، لأن الحركة الصهيونية هي حركة أوروبية، استخدمت هذه المصطلحات في بلادنا. وبالنسبة للأوروبين، هذا أمر مريح، لأنه يعمل على إزاحة التهمة وتصديرها للعرب والمسلمين".
في هذا السياق، تطرق بشارة للحركة الصهيونية، وقال: "نشأت في أوروبا، وهي ليست فقط متأثرة بالحركات القومية الأوروبية، بل هي مقلدة لها وللخطاب القومي في أوروبا، وتحديدًا وسط أوروبا في القرن التاسع عشر". مضيفًا: أن "العداء للصهيونية، أصله ليس عربيًا ولا إسلاميًا، بل هو ظاهرة يهودية مثل الصهيونية ذاتها، لأن بدايات الصراع كانت قبل الاستعمار الاستيطاني، إذ ظهر في المجتمعات اليهوديات، على تعريف من هم اليهود. وكان هناك غالبية معادية للصهيونية، لأنها أي الصهيونية، تُعرف اليهودية تعريفًا لم يعرفه اليهود".
وأوضح بشارة وجود 3 مصادر يهودية للعداء للصهيونية، وهي: أولًا، مصدر ديني، وأصبح على الهوامش اليوم، ولكنها كانت تيارًا رئيسيًا حينها، وكان سبب رفضها للصهيونية لأنها "حولت اليهود من ديانة وجماعة دينية اختارها الله، إلى قومية علمانية، مثل باقي القوميات"، كما أن هذا التيار لم يقبل فكرة الدولة. ثانيًا، اليهود الاشتراكيون والشيوعيون، على أساس اعتبار أن الصهيونية تعمل على تقسيم الطبقة العاملة، وأن خلاص اليهود، مثل بقية الشعوب بإقامة النظام الاشتراكي. ثالثًا، المصدر الليبرالي والديمقراطي، وهو مصدر نخبوي، مع الإيمان بنشوء فكرة المواطنة، واعتبروا دخول الصهيونية معرقلًا أمام اليهود للاندماج، لأنهم اعتبروا أن الدين ليس حاجزًا أمام الاندماج والمواطنة، مع عملية علمنة الدول في فرنسا وألمانيا.
وانتقل بشارة إلى سياق آخر، وقال: "العداء الفلسطيني للصهيونية، ليس لأنها يهودية، بل هو معاداة للاستعمار. العداء ليس سببه لليهود بوصفهم يهودًا، كما في أوروبا، العداء الفلسطيني للصهيونية من نوع آخر، وهو عداء لها بوصفها حركة استعمارية، وليس متعلقًا باليهود".
واستمر المفكر العربي، بالقول: "القضية ليست عداءً لليهود، وهذه المحاولات هي تجنٍّ علينا وعلى حضارتنا، وعلى عدالة نضالنا في فلسطين، الذي هو نضال عادل ضد الاستعمار".
ولفت بشارة النظر، إلى تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" عن معاداة السامية، الذي أضيف إليه قسم، وضع فيه "11 مثالًا تشكل مرشدًا لمكافحة اللاسامية، 7 منها عن إسرائيل"، مشيرًا إلى نماذج خطيرة جدًا في هذا القسم، مثل اعتبار وصف "إسرائيل بأنها دولة عنصرية" من ضمن التعريف، ومنع انتقاد اللوبيات الإسرائيلية مثل "الإيباك"، موضحًا أن العمل "يحصل على تعقيم اللغة، من أجل منع إدارة نقاش سياسي عاقل، إذ يجب أن يكون الشخص في حالة اعتذار ودفاع عن النفس، وهذا ما يجب أن نتجنبه".
وأشار إلى ضرورة وجود جهد عربي، من أجل مواجهة الاتهامات بـ"اللاسامية" بناءً على نقاش سياسي، وخوض معارك عبر النظام القضائي في الغرب، من أجل عدم الاستسلام لهذه الاتهامات.