تشاء الصدفة أن يُعرض فيلم "قلق في بيروت" في ذروة موجة الحر التي مرّت على عمّان، ولا تزال بقاياها حاضرة، ضمن فعاليات "مهرجان عمان السينمائي الدولي – أول فيلم"، ويحدث أن يكون العرض الأول تحت سماء المدينة في مبنى الهيئة الملكية للأفلام في الهواء الطلق، فتصببنا قلقًا من أحداث الفيلم، وعرقًا بفعل قرار الهواء بالتزام السكينة يومها.
الفيلم من اخراج زكريا جابر، وعنه، وأيضًا عن الكثيرين الذين يعيشون تحت رحمة الأنظمة المنتفعة من تعطيل البلد، فكل شيء يجري ويركض بعشوائية لا تؤدي إلى أي شيء، كما هو حال بيروت التي صورها جابر.
من مكب النفايات الذي أخبرنا زكريا أنه شهد بداياته في التصوير إلى نهايات الانفجار الذي كسّر كل أحلام التغيير إلى الأفضل، ولربما كانت الكاميرا المثبتة بيده الثابت الوحيد طيلة السنوات الثلاث التي استغرقها تصوير الفيلم.
لم يحاول "قلق في بيروت" أن يقدم حلًا آخر غير الهجرة أو الموت، الأمر الذي يزيدُ من جرعة الإحباط السائدة في لبنان وغيرها أيضًا من الدول التي يُحسد بعضها على توفر الكهرباء 24 ساعة في اليوم
الفيلم -وهو كتابة زكريا جابر وعمر لَيزا وجمانة سعادة وهي أيضًا المنتجة المنفذة من الأردن- كانَ سببًا لقلق عشناه على مدى الدقائق الثلاث والتسعين، وهي مدة الفيلم، مع أن معظمنا، إن لم يكن جميعنا قد تابع الأحداث أولًا بأول منذ ثورة 17 تشرين وحتى كارثة الرابع من آب، على مدى سنوات.
لماذا نقلق إذًا حين نرى أحداثًا شاهدناها مرارًا وكأنها المرة الأولى؟
يحسب لزكريا أنه استحوذ على انتباهنا كامًلا بعادية الأحاديث وعفويتها، حوارٌ صباحي مع والده، أول فيديو يقوم بتصويره إياه، أحلام الأب على المسرح، علاقته بأمه التي رأيناها انتهت دون أن يخبرنا بذلك، تحولُ فكر الأب من الشيوعية إلى الحريرية، وحتى هرولته البيتية زمن الحظر، كلها أحداث تدفقت أمام المشاهد بسلاسة ذكية، وبثّت فينا القلق المطلوب.
قلقنا مع فرح درويش وعليها، دون أن يطلب منّا زكريا ذلك، فقد وضع أمامنا الحقيقة كما هي، مهتزّة كلمّا هربت من الدرك، مرتبكة كأي فردٍ بمواطنة منقوصة، رأيناها تتقدم المظاهرات، وتساعد في إبقاء النار مشتعلة، متناسية هي ربما، كما نسينا نحن لحظتها، التمييز الذي تعيشه كونها لأب سوري وأم لبنانية، ذابت فرح في لبنانيتها بعد أن خسرت وطن أبيها، ولعل هذه النقطة تحديدًا كانت تتسع للمزيد من القلق الذي صورّه زكريا في فيلمه.
طيارة أم تابوت؟
من استطاع تأمين مقعدٍ على إحدى الطائرات المغادرة لمطار بيروت بعد أن يجتاز كل معيقاته فقد نجا، أمّا التوابيت، فهي جاهزة لاستقبال عدد يصلُ إلى حوالي 200 جثة دفعة واحدة، كما حدث في الرابع من آب/أغسطس.
طيارة.. تابوت، نهاية حتمية لمن يعيش في بلد بلا أفق ولا ظل، والمشاهد المكررة لزكريا في طريقه إلى المطار ليودع أصدقائه متوقعةٌ تمامًا، ففي حين كانت المظاهرات التي وثقها جابر تستهدف إصلاحًا جماعيًا، صارَ الخلاص الفردي هو الحل، وهذا ما رأيناه عبر سفرهم واحدًا تلو الآخر بعد أن كانوا من أكثر المؤمنين بأنهم قادرين على التغيير.
في الفيلم أيضًا، تسمع جملة عابرة تسخر من عدم وجود دولة، فلا حكومة، ولا مصارف، ولا موظفين، ولا مؤسسات، إلا أنها تؤكد على وجود الدولة ممثلة بالجيش والدرك والتي لا تتسامح مع وجود كاميرا بيد شابٍ يصرخ بأنه صحفي مطالبًا الدركي بأن يسمح له بالتصوير.
من يحمي من، ومِن مَن؟
إن كانت لا دولة ولا حكومة هناك، فالدرك يحمي من؟
الحقيقة تقول إن العسكر هو الدولة، ووجودها يعتمد على ضرب الدركي للمتظاهرين، وقتلهم أحيانًا، ببساطة شديدة نرى هذه الحقيقة التي تمر أمامنا في كل خبر عن لبنان، وقد وثقّها زكريا وغلفها على شكل مواجهة بين الطيارة والتابوت، وعلى الطرف الأضعف أن يختار.
لا أعرف بالضبط كم كان سعر صرف الليرة اللبنانية حين انتهى طاقم العمل من العمل على الفيلم، لكن يحيى جابر (والد زكريا وأحد الشخصيات فيه) كاد أن يفقد عقله حين وصلت إلى 28 ألفًا مقابل دولار واحد، اليوم تقارب على المائة ألف لكل دولار، فمن يحمي الليرة أيضًا؟ إن لم يكن حاميها حراميها كما يقول المثل.
ملاحظات سريعة قبل الختام
من العنوان "قلق في بيروت" توقعنا أن كل ما سنراه سيكون عن بيروت، وقد كان، فلم نسمع عن أي حراكات أو مظاهرات في مدن أخرى. كما لم يحاول الفيلم/ المخرج أن يقدم حلًا آخر غير الهجرة أو الموت، الأمر الذي يزيدُ من جرعة الإحباط السائدة في لبنان وغيرها أيضًا من الدول – التي يُحسد بعضها على توفر الكهرباء 24 ساعة في اليوم – وكأنها رفاهية في هذا الوقت من عمر الأرض.
ومن الأسئلة التي تراود المشاهد أيضًا، كيف هو حال الذين "زبطت معهم" واشتروا تذكرة الطائرة؟ هل وجدوا ما كانوا يحلمون به في غربتهم التي أجبروا عليها؟
شاهدنا من يشبهنا في الفيلم، سرد زكريا تفاصيل الطبقة التي تطالب بالتغيير، ولم نسمع أو نرى شيئًا عن غيرهم، كالأغلبية الصامتة، والأقلية المنتفعة، كأن القلق يتسربُ فقط ممن يشبهوننا.
ختامًا
الفيلم الحائز على على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان شنغهاي السينمائي، نجح فيه زكريا ورفاقه في مغامرة إيصال اليومي البسيط بطريقة رشيقة دون ملل من مشاهد طويلة أو حوارات لا داعي لها، فبقينا، على الرغم من حرارة الجو وجفاف حلوقنا على مقاعدنا لآخر مشهد، وحين سُئل زكريا عن السبب الذي يبقيه في بيروت إلى اليوم أجاب: "شو بَدي أعمل، بحبه هالبلد"... وهنا تكمن الحكاية.