"جئتكم وأنا أعلم أنكم ستسحبون الثقة مني، فلست هنا لاستجداء دعمكم"، بهذه الجملة ختم الحبيب الصّيد، رئيس حكومة تصريف الأعمال بحكم القانون حاليا، كلمته في جلسة التصويت على تجديد الثقة، التي انتهت بسحبها من حكومته بتصويت إيجابي من نواب الائتلاف الرباعي الحاكم فيما امتنعت المعارضة عن المشاركة فيما أسمتها "مسرحية هزلية".
قد يمثل سحب الثقة عن الصيد فرصة لامتصاص حالة التوتر الاجتماعي في ظل التدهور الاقتصادي للبلاد لتقول الطبقة الحاكمة بأنها مازالت تحسن من نفسها
وقد جمعت هذه الجلسة البرلمانية التي شهدت حضورًا غير مسبوق للنواب، في ظاهرها متناقضات عديدة عما استكان في خفاياها، وما انتهى إليها تصويت لم يكن بغير المفاجئ بكل الأحوال. فأحد نواب نداء تونس، المشارك في الحكومة، لام الصّيد لأنه لم ينصح في كلمته الحكومة القادمة، وهو ما يعكس أن النتيجة معلومة، وما قبلها هو من باب الشّكلي المُلزم.
اقرأ/ي أيضًا: الجولاني ينفصل عن القاعدة، إلى أين؟
انتظر التونسيون بشغف كبير جلسة التصويت التي انعقدت يوم السّبت وهو أول يومي العطلة في البلاد، ليفرض الحدث السياسي نفسه في خضم الاستعدادات لقضاء عطلة أسبوعية في صيف حارّ. انتظروا هذه الجلسة ليس لأنها أول جلسة في تاريخ البرلمان التونسي يطلب فيها رئيس الحكومة التصويت على مواصلة حكومة لنشاطها، وليس لأن التونسيين لا يعرفون مآل التصويت، بل انتظروا ما سيقوله رئيس الحكومة في بيانه أو في كلمة كشف الحساب أمام الشعب، حيث كانت تبثّ القنوات التلفزية الجلسة على الهواء مباشرة.
فقبيل هذه الجلسة، صرّح الصيد لقناة تلفزية أن سياسيًا تبيّن لاحقا أنه من الحزب الحاكم نداء تونس، قد توعّده وهدّده بالتعبير العامّي "استقيل خير ما نمرمدوك" أي استقبل أفضل من تعريضك للإهانة. وإذا ما أُضيف هذا التصريح لما لم يُخف في الكواليس وما كشفه نواب المعارضة خلال الجلسة على تعرّض الصّيد لضغوطات من دائرة رئيس الجمهورية وتحديدا من ابنه بخصوص ملفّ التعيينات في المناصب العليا للدّولة، فإنه قد تكون للصيد، وهو العالم مسبقا بسحب الثقة من الحكومة، فرصة لكشف الأوراق، إن لم يكن ثأرًا لشخصه ممّن قرّروا التخلّي عنه، فمصارحة للشعب بكواليس إدارة البلاد.
بعد كلمة تقديمية من رئيس البرلمان، صعد الصّيد للمنبر حاملًا بضع أوراق صغيرة، ما يؤشر أنه لم يعدّ بيانًا مكتوبًا سيقرأه على غير عادته وهو الذي يفتقد لمهارة الخطابة، فما إن بدأ بالبسملة، حتى اشتدّت الأنظار. تحدّث بداية بأنه جاء للبرلمان لاعتباره أن مبادرة حكومة الوحدة الوطنية قد انحرفت عن مسارها بعدما تتالت المطالب باستقالته، فباتت هذه المبادرة تستهدف أساسا تنحيته، فما كان منه إلا التوجّه للبرلمان ممثّل الشّعب صاحب السّيادة. وعرّج الصّيد في هذا الجانب بأنه زاهد في المناصب ولو طُلب منه من البداية الاستقالة لاستقال.
وتحدّث بأن من أسباب مجيئه هو عرض إنجازات حكومته، وكان قد وزّع على النواب قبل بدء الجلسة بدقائق كتيّبا حول ذلك، خاصة وأن جزءا من الائتلاف الحاكم كان ينتقد حكومته لعدم وجود برنامج لها، وقد أشار تلميحًا في هذا الجانب لما يردّد عدد من وزرائه في الكواليس. وعليه، كان لزامًا العودة للبرلمان.
وهو ما يبيّن أن رفض الصّيد للاستقالة وفق ما تقتضيه مبادرة حكومة الوحدة الوطنية، لم يكن في الواقع تحديًا لرئيس الجمهورية ولا للائتلاف الحاكم، خاصّة وأن الصّيد يعلم منذ البداية أنه فقد سنده السياسي، بل إنه رفضًا للرضوخ لطلبات مجموعة في دائرة الحكم كانت علاقته بها متوتّرة، فإن كان هو رجل إدارة ودولة منذ عقود، فتكون عنده الاستقالة كذلك "زرطة" بتعبير الصيد نفسه، وتعني الكلمة العاميّة هروب الجندي من الجيش.
لم يكن الحبيب الصّيد بالنهاية صريحًا وجريئًا حول الأسباب الحقيقية للتخلّي عنه، فقد أشار حرجًا للحاجة القصوى لمكافحة الفساد دون إضافة
اقرأ/ي أيضًا: مصر..النظام يختبئ خلف ميج-35
أكدّت كلمة الصّيد أنه ظلّ وفيًا لنفسه وتاريخه، وهو رجل الدّولة الذي عمل في نظام بن علي حيث كان مديرًا لديوان وزير الداخلية في التسعينيات ثم كاتب دولة في بداية الألفية، فقد انتصرت بالنهاية ما طبّعته الدولة ونواميسها الظاهر منها والخفيّ على أرجاء رحلت أدراج الرياح.
فلم يكن الصّيد بالنهاية صريحًا وجريئًا حول الأسباب الحقيقية للتخلّي عنه، فقد أشار حرجًا للحاجة القصوى لمكافحة الفساد دون إضافة، وإن لمّح همسًا في جانب آخر لملف تعيين المعتمدين، رؤساء المحليّات في المناطق، حيث قال إنه رفض طلبات لتعيينهم وفق الولاءات الحزبية وحسب الوزن الانتخابي للائتلاف الحاكم. وأضاف بأن أحد هؤلاء المعتمدين طلب منه الاستقالة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو قول جاء على سبيل السخرية، ليلاقي تصفيقًا حارًا من نواب الائتلاف الحاكم، وتلك إحدى صور طرافة المشهد التونسي.
وهي طرافة أكدتها مداخلات هؤلاء النواب حيث أثنى غالبيتهم على أداء الصيد وحكومته خاصة وأن عددًا من القيادات السياسية في هذه الأحزاب هم وزراء في الحكومة ذاتها، ومن المنتظر أن يكونوا كذلك وزراء في الحكومة القادمة. وهو ما جعل أحد نواب المعارضة يستعرض ساخرًا معادلة غريبة وهي أن وزير ناجح يُضاف إليه وزير ناجح تكون النتيجة حكومة فاشلة، وإلا لما كان القرار التخلّي عن رئيسها.
ولعلّ أكثر مداخلات النواب حماسة هي مداخلة عمار عمروسية النائب عن الجبهة الشعبية المعارضة الذي توجّه لرئيس الجمهورية بقوله "ولدك في دارك" في إشارة إلى أن ابن رئيس الجمهورية والقيادي في نداء تونس حافظ قايد السبسي هو الذي يقف وراء التخلّي عن الصيّد. وقد بدأت لاحقًا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي بنفس العبارة، بسبب النفوذ غير الخفي الذي يمارسه السبسي الابن على والده.
حاليًا باتت حكومة الصيد حكومة تصريف أعمال في انتظار تكليف رئيس الجمهورية لرئيس حكومة جديد في ظرف عشرة أيام، تفعيلا للمبادرة الرئاسية، ليظلّ السؤال عن الشخص المنتظر الوافد على مبنى القصبة (مبنى رئاسة الحكومة).
ربّما البحث عن هذا الاسم بقدر ما قد يكون عسيرًا للأطراف المنخرطة في المبادرة بحكم الحرص على موافقتها جميعًا عنه، بقدر ما سوف لن يؤدي هذا البحث بالنهاية لشخص بغير القالب المعلوم مهمّته الأساسية هي القدرة على إرضاء دوائر النفوذ والمصالح الاقتصادية والسياسية للأحزاب الحاكمة، وهي التي كشفت خفاياها تقارير استقصائية متتالية نشرها صحفيون تونسيون طيلة الأشهر المنقضية.
قد يمثل سحب الثقة عن الصيد فرصة لامتصاص حالة التوتر الاجتماعي في ظلّ التدهور الاقتصادي للبلاد لتقول الطبقة الحاكمة في الوقت الراهن بأنها على مازالت تطور من نفسها، ولكنها تظل دائما تُسأل عن وعودها الانتخابية. وأما عن سؤال مكافحة الفساد الذي نخر البلاد وزاد وقد تورّط فيه عدد من وزراء الحكومة، فلتُغمض الأعين ولتُمسك الأيدي لتبقى الألسن تصنع البطولات. ولذلك، لا يهمّ دائما في تونس من يحكم في القصبة ما دام العرّابون هم أنفسهم.
اقرأ/ي أيضًا: