10-نوفمبر-2015

فتى فلسطيني يعبر سحابة غاز مسيل للدموع (جيتي)

شغل هذا السؤال الأوساط الإعلامية والشعبية الفلسطينية منذ لحظة بث الفيديو القاسي، لضباط تحقيق إسرائيليين يتناوبون على الصراخ في طفل مصاب معتقل. لا حاجة لوصف الفيديو بكل صفات الألم والقسوة والعنف الهمجي وغيره، فهو لا يقل سوءًا، بل ربما يزيد عن فيديو اعتداء المستوطنين على أحمد وهو مصاب في الشارع، وركله وشتمه. الفيديو أثار اضطرابا وجدلا، والتساؤل مستمر لماذا نشره الاحتلال؟

هنا يمكن الوقوف على الطريقة التي يفهم فيها الفلسطينيون أداء الإسرائيليين إعلاميًّا ومخابراتيا وسياسيًّا. ولا شك أن هذا الفهم متباين، والأهم أنه لا ينطلق من محاولة تحليل وفهم لمنطق الاحتلال وسياساته، بل ينطلق من تصورات الفلسطينيين المسبقة للاحتلال والناجمة عن مواقفهم هم من الاحتلال.

ينطلق الفهم الفلسطيني للاحتلال غالبا من تصورات مسبقة عن الاحتلال لا من تحليل للاحتلال وسياساته

وهذا معناه، أن هنالك فلسطينيين مشغولين بمقولة فضح الاحتلال وتعريته أمام "العالم" كقوة معتدية همجية غاشمة، هذا هو فهمها لدورها في مواجهته، وتعتقد أن الاحتلال يعي ذلك ويخاف من خطورة فعل تعريته أمام العالم، ولذلك يجهد في تبييض صفحته وإظهار إنسانيته وأخلاقيته، واتهام الفلسطينيين بما يتهمونه به من لا أخلاقية وعنف وإرهاب.

هذه الفئة العريضة جدا مقتنعة أيضا أنه ولكسب المعركة، لا بد أن تكون صفحة الفلسطينيين بيضاء، لأن مقارنتهم مع الاحتلال ستكون أول ما يفكر "العالم" بفعله، ولذلك يبدو لدى أصحاب هذه القناعة أن هنالك حربا محتدمة على الجانبين لإظهار وحشية الآخر  ومظلومية نا.

نشر الفيديو أحدث إرباكا عند أصحاب هذه التوجه العريض، فلماذا ينشر الاحتلال ما يفضح وحشيته في التحقيق مع طفل؟ لماذا يخطئ هذا الخطأ وما المغزى منه؟

هنا لم تعد طريقة التفكير السائدة عند هذه الفئة مفيدة وفعالة، وضربت جزءا أصيلا من فهمهم للصراع مع الاحتلال ومواجهته، وإعلاء شأن المعركة الإعلامية في هذا السياق، وإعلاء قيمة "العالم" أو "الرأي العام" حول العالم. إلا أن النشر عمليًّا وفر مادة يمكن العمل عليها لمواصلة جهود تعرية الاحتلال وفضحه. هنا وكأن الاحتلال أخطأ ولا بد من استغلال خطئه، حتى إن كان خطؤه يضرب تصورنا عن معركتنا معه.

في الجهة المقابلة هنالك من يرون الصراع مع الاحتلال بمثابة مواجهة وجودية مفتوحة وعنيفة ومستمرة، وأن الاحتلال لا يأبه بصورته ولا بقدر الوحشية التي يظهر بها. وعليه وعند نشر الفيديو، فالاحتلال يريد كسر إرادة الفتية والشبان وإهانة الفلسطينيين وكسر إرادتهم وإظهار مقدار عنجهيته وتحكمه. والتالي على هذه القناعة أن الاحتلال ضرب صورة أحمد الفلسطيني البطل. فعبّر كثيرون بشكل عفوي عن مقدار القهر والهزيمة الذي لحق بهم بمجرد نشر الفيديو وتداوله، وملأت تعليقاتهم الفضاء الافتراضي.

هنا أكد نشر الفيديو قناعة هذه الفئة، ولكن أثره عليها - وهو ناجم من القناعة نفسها- كان قويا وفعالا، وناجحًا من وجهة نظر الاحتلال، إن كان يفكر كما تقول هذه الفئة فعلا.

ما يمكن التفكير به هنا، وانطلاقا من تورط الفئتين في هذه الحادثة، هو أننا بحاجة لمراجعة التصورين، وبحاجة للتوقف عن إقامة فصل حاد بينهما، بل يمكن من حادثة الفيديو هذه، أن تكون مثالية لاقتراح تعديل في تصورنا للاحتلال وممارساته، منطلقا من ممارسته نفسها وليس من إسقاطاتنا نحن لما نعتقد أنه مفيد في معركتنا مع الاحتلال.

أول ما يمكن اقتراحه متصل بقرار أمني يتعلق بالنشر، وهذا القرار ناجم عن تحليل مستمر لأكثر من سنة لعمليات الطعن الفردية، ويمكن القول إن أحمد مناصرة هو ذروتها، من حيث الواقع المتفجر الذي دفع طفلا للفعل.

فمجمل عمليات الطعن كان ينبغي أن تنتهي إلى المنفذ شهيدا، وهذا ما اعتمده الاحتلال من قتل حتى للمشبوه بهم، وأغلب الظن أن هذه الطريقة خضعت لمراجعة في الدوائر الأمنية، فالقتل -غير الضروري- بالإضافة إلى الضجيج الذي يثيره والأسئلة المستمرة حوله، يعني بطريقة أو بأخرى تحقيق الغاية التي أرادها المنفذ. أما الاعتقال، ومع إصابة، فهو مصير يبدو وكأنه غير متوقع بالنسبة للمنفذين ويحاولون تحاشيه كما تقول الوصايا وفيديوهات العمليات.

وبالتالي ففيديو التحقيق مع أحمد هو رسالة أمنية من الاحتلال للفلسطينيين تقول إن هذا هو ما ينتظر من يفكر في تنفيذ أي فعل نضالي ضد الاحتلال وتحديدا الطعن، على اعتبار أن ما شاهدوه سيكون رادعًا، تحديدا إن كان يعقبه سجن مؤبد.

هنا الاحتلال ينطلق من تصور أمني لإدارة أزمة، وهنا تحديدا يأخذ الخيار الأمني الأهمية الأولى، وإلحاح الأزمة ينحّي كل الأهداف الأخرى والمحددات المختلفة. وهنا منطق مغاير لفهم الفئتين الفلسطينيتين للاحتلال، لأن فهمهما نابع من تصور شمولي للاحتلال، وهنا تدبير جزئي يتعلق بالتعامل مع ملف ساخن وذي أولوية، وتنفع معه التكتيكات الأمنية لا الخطط الكبرى والاستراتيجيات الشاملة حول إدارة الصراع.

ثاني ما يمكن اقتراحه هنا، أن سلوك الاحتلال ينطلق من مزيج توجهات وآليات، قد تبدو متناقضة، ولكنها في الحقيقة منسجمة ومضبوطة بسياسة واحدة تضع إسرائيل ومصالحها كمحدد رئيس، وما التنويع في الأدوات والأساليب إلا تعبير عن تغير مستويات المواجهة والتهديد والأولويات.

وفيديو التحقيق مع أحمد تعبير واضح عن الحالة، فالاحتلال كقوة استعمارية تخوض حربا مع شعب مستعمَر، لا يتأخر في استخدام أي حيلة نفسية لكسر صورة البطل، أو تحطيم تصورات الفعل عند المستعمَرين، وإعادة تعريف نفسه كفاعل وحيد بعد أي مرحلة تهتز فيها هذه الصورة. وهنا فإن بث شعور العجز والإذلال والضعف، مهم كل الأهمية، وضروري تحديدا مع من شكلوا رمزية ما في وجدان المستعمَرين.

فيديو التحقيق استكمال لفيديو أحمد مصابًا والمستوطنون يشتمونه ويضربونه، فالجهاز الاستعماري لا يقبل المزاودة على عنفه حتى من المستوطنين

والجهاز الاستعماري حتى يعمل لا بد له من ضحايا، هو بحاجتهم بشكل مستمر لتأكيد سيطرته، لمن يستهدفهم وكذلك لأفراده، ولذلك فالفيديو يقول للفلسطينيين أنكم ضحايا مغلوب على أمركم مقهورون، ويقول للإسرائيليين أنهم هم أصحاب الفعل الوحيد ولا يزالون قادرين على التحكم في قدر الفلسطينيين.

وهنا بالضبط يبدو فيديو التحقيق استكمالا واعيا لفيديو أحمد مصابًا والمستوطنون يشتمونه ويضربونه وهو ملقى على الشارع. وهنا أيضا إشارة مهمة، إلى أن الجهاز الاستعماري لا يقبل المزاودة على عنفه وقسوته حتى من المستوطنين، فهو أقدر منهم على ممارسة العنف بل ويحتكره وينظّمه في غرفة مغلقة وأمام مجموعة حواسيب.

في الآن نفسه، يريد الاحتلال على صعيد الحرب الإعلامية أمام "العالم"، تكريس صورة أحمد كمجرم، كطفل قاتل، وكل التأكيد على أحمد متصل بكونه طفلا، وبكونه أثار ضجة إعلامية واسعة، شارك فيها الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

الاحتلال يريد أن يؤكد أن هذا الطفل قاتل، وأن الاطفال الذين يعتقلهم الاحتلال مجرمون، هنا لا بأس بمخالفة كل الأعراف المتعلقة باعتقال الأطفال والتنكيل بهم، إن كانت الغاية تأكيد أنهم متوفرون على كل عناصر الإجرام، وهذا ما يريد الاحتلال تأكيده. ومحاولة انتزاع اعتراف من أحمد بفعله، هو في صلب هذا التوجه، بغض النظر إن اعترف أو لم يعترف، فالنتيجة واحدة، إما هو مجرم ويعترف، أو مجرم يرفض الاعتراف، وكلاهما مجرم حسب رغبة الاحتلال ورؤيته.

اللافت هنا هو الكيفية التي يمكن للاحتلال التخلي فيها عن تكتيك لصالح آخر قد يبدو مناقضًا تمامًا، هذا ليس تخبطًا بقدر ما يكون مراعاة لمتغيرات مستمرة ولحظية. كل هذا لا يعني بشكل من الأشكال أن هذا الجهاز الاستعماري كليّ القدرة والتحكم، يكفي أن نتمعن في فيديو التحقيق لنكتشف إلى أي مستوى وصلت هيبة هذا الاستعمار وبأي طريقة يحاول استعادتها، بالتحقيق العنيف مع طفل!

إن كان من خلاصة، فهي أن حفنة رسائل وإشارات وتهديدات يرسلها الاحتلال من هذا الفيديو، كلها تدعونا لإعادة النظر في التقسيمات الحادة وغير الموضوعية لطبيعة الاحتلال وطريقة مواجهته والجهد المبذول في مجالات منغلقة على تصوراتها لدرجة قد تجعلها تعادي شعبها وتشتغل ضده.

نقطتان ختاميتان:

بكاء المعتقل أفضل بكثير من تخزين كل الضغط النفسي والبدني، ولذلك فأحمد مناصرة سيكون بخير، يجب أن نقتنع بذلك ونقنع أمه

- نشر الاحتلال عقب هزائمه النفسية الهائلة في حربه مع حزب الله، فيديو التحقيق مع مصطفى الديراني، مهم الرجوع بالذاكرة إلى تلك الفترة، ومقارنتها مع فيديو أحمد. ومهم فهم كيف يجب على الجماهير أن تتعامل مع الفيديو. فانتهاك العرض والتعرية التي تعرض لها الديراني لم تكن إلا رصيدا في نضاله وتقديره شعبيا. وإضافة مهمة لفهم كيف يتصرف الجهاز الاستعماري وكيف يجب إبطال فعالية تصرفاته.

- من الطبيعي أن يصرخ المعتقل وينهار ويغمى عليه ويجنّ ويرغب جنسيا بسجانته بل ويغتصبها إن تمكن، يضرب زملاءه في الأسر، يترك دينه، أو يتشدد ويتطرف، يكفر بكل شيء أو يؤمن بكل شيء، كل هذا طبيعي وممكن، وهذا هو السجن الاستعماري وظروفه. مهم أن نعتقد بذلك دوما. وأكثر الأفعال بداهة هو البكاء، بل هو أفضل بكثير من تخزين كل الضغط النفسي والبدني، ولذلك فأحمد سيكون بخير، يجب أن نقتنع بذلك ونقنع أمه.

 

اقرأ/ي أيضا:

هل يخشى نتنياهو الفيسبوك فعًلا؟

المواجهة بوصفها حتمية البقاء