في أعقاب عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها كتائب القسام في مستوطنات غلاف غزة، وإعلان إسرائيل حربًا هي ربما الأعنف في تاريخها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، سارع كبار الساسة الأمريكيون والأوروبيون للسفر إلى تل أبيب لإعلان دعمهم لإسرائيل والتأكيد على "حقها في الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب"، تبعتهم وسائل الإعلام السائدة التي تلقّفت السردية الإسرائيلية دون أي محاكمة أو نقد يتطلبه الحد الأدنى من المهنية الصحفية.
ومع تسارع وتيرة الأحداث، وتباين المواقف، اتّسعت الهوّة العالمية التي كانت تتشقق تدريجيًا في ظل بدء الحديث عن نزع العولمة. وعادت أحاديث الشمال والجنوب العالميين، الشرق والغرب، وحتى البيض والملونين، في ثنائيات تعكس وجهات نظر سائدة، لكنها ربما ليست بالغة الدقة من الناحية السياسية أو الاجتماعية. وكما نتج عن القمة العربية-الإسلامية مخرجاتٍ متباينة وبنودًا استوجبت تسجيل تحفظات، كان الانقسام أكثر وضوحًا وفجاجةً داخل البيت الأوروبي.
في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، ومع اشتداد الحرب في غزة ومضي أكثر من 20 يومًا عليها، كرر زعماء الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين إدانتهم للهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل، وأعادوا التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. كما أعربوا عن "القلق البالغ إزاء تدهور الوضع الإنساني في غزة" وشددوا على الحاجة إلى وصول المساعدات، "بما في ذلك الممرات الإنسانية والتوقف مؤقتًا لتلبية الاحتياجات الإنسانية".
وعلى الرغم من أن هذه العبارات هي نفسها التي خرجت منذ اليوم الأول، فإن هذا "الموقف الموحد للاتحاد الأوروبي" بشأن الصراع في الشرق الأوسط استغرق خمس ساعاتٍ من التشاور للوصول إليه، مع إبعاد للهواتف الحساسة عن غرفة النقاش، وفقًا لما نشرته صحيفة بوليتيكو.
انقسمت أوروبا في الأمم المتحدة بشأن قرار وقف إطلاق النار في غزة. إذ صوتت دول مثل إسبانيا وأيرلندا وفرنسا لصالحه. وامتنعت ألمانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى، عن التصويت
وفي الأسبوع نفسه، انقسمت أوروبا في الأمم المتحدة بشأن قرار وقف إطلاق النار في غزة. إذ صوتت دول مثل إسبانيا وأيرلندا وفرنسا لصالحه. وامتنعت ألمانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى، عن التصويت. وصوتت كل من النمسا والمجر والتشيك ضد القرار. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها أوروبا، إلا أن انقساماتها كانت واضحة للعيان.
تداعيات على وحدة القرار الأوروبي
لطالما اتّبعت أوروبا نهجًا أكثر توازنًا من الولايات المتحدة في التعامل مع إسرائيل وفلسطين، وذلك يفسر، ولو جزئيًا، احتضانها معظم المناقشات العامة ومؤتمرات السلام المتعلقة بالشأن الفلسطيني. وفي بعض الأحيان، ولّد هذا خطابًا أكثر دقة، ولكن ليس بالضرورة سلطةً أو تأثيرًا على نتيجة الصراع. وبما أن أوروبا لا تقدم لإسرائيل نفس نوع وكم المساعدة الأمنية أو العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة، فهي لا تتمتع بنفس نفوذ واشنطن هناك. كما أنها تفتقر إلى الثقة من جانب الفلسطينيين، وكذلك العرب والمسلمين عمومًا.
وبالإضافة إلى الاحتجاجات والمسيرات المطالبة بوقف إطلاق النار التي اجتاحت العواصم الأوروبية، وارتفاع معدلات معاداة السامية في القارة، تعمل الحرب على تقسيم اليسار في أوروبا، مثل الاشتراكيين في فرنسا وحزب العمال في المملكة المتحدة. ويرى البعض أن أوروبا أهدرت مكانتها كوسيط نزيه، خاصة في الجنوب العالمي، حيث يتناقض موقفها الضبابي بشأن غزة مع إدانتها القاطعة للحرب الروسية على أوكرانيا.
وفي أعقاب أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، أعلن المفوض الأوروبي المسمى أوليفر فارهيلي، من المجر، التعليق الفوري للمساعدات المقدمة إلى فلسطين. ما دفع كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إلى محاولة التخفيف من تلك الأقوال بعد فترة وجيزة، وإصراره على أن المساعدات لن تتوقف، في حين أضاف أنه ستكون هناك مراجعة للتأكد من عدم وصول أموال إلى حماس؛ على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان واثقًا بالفعل من عدم وصول أي أموال إلى حماس.
لم تكن تلك المرة الوحيدة التي يقوم فيها بوريل بهذا النوع من "تصحيح المواقف". إذ تعرضت مفوضة الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لاين، لانتقادات واسعة بعد أن قامت برحلة غير مقررة إلى إسرائيل في منتصف تشرين الأول/أكتوبر. ويقال إن البعض شعروا بالغضب لأنها قدمت دعمًا غير مشروط لإسرائيل، وفشلت في حث إسرائيل على اتباع القانون الدولي في غزة.
وقال بوريل بعد فترة وجيزة: "يتم تحديد الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي بشأن أي قضية تتعلق بالسياسة الخارجية من خلال المبادئ التوجيهية الرسمية للاتحاد الأوروبي"، مضيفًا أن السياسة الخارجية يقررها زعماء الدول الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي، في إشارة منه إلى أن فون دير لاين لا تتحدث باسم الكتلة الأوروبية، وهي التي تصدرت الخطاب الداعم لأوكرانيا سابقًا دون نشوب خلافات.
كل هذه علامات على الانقسامات التي بدأت تتكشف على كافة المستويات داخل أوروبا: داخل قيادة الاتحاد الأوروبي، وبين حكومات الدول الأعضاء الفردية، وداخل سكان تلك الدول كذلك. الأمر الذي جعل القارة الأوروبية تسعى جاهدة للمحافظة على درجة من الاتساق، أو على الأقل إخفاء المناقشات والانقسامات التي كشفت مدى تهميش النفوذ الأوروبي في الحرب الجارية على غزة.
ويتشكل الكثير من هذا من خلال الديناميكيات السياسية الداخلية في أوروبا. فألمانيا، لأسباب تاريخية واضحة، هي الأكثر تطرفًا في دعمها لإسرائيل. بينما كان تاريخ الاحتلال والاستعمار البريطانيين لأيرلندا جعلاها تميل نحو المزيد من التضامن مع القضية الفلسطينية.
مواقف أوروبية متباينة تاريخيًا
خلال الحرب الباردة، كان يمكن تمييز الدعم لفلسطين أو إسرائيل بحسب الخط الفاصل بين الشرق والغرب، كما لا تزال العديد من دول الكتلة السوفييتية السابقة تعترف بفلسطين كدولة، حتى مع أن بعضها – مثل المجر والتشيك – أصبحت منذ ذلك الحين من أكثر الأصوات المؤيدة لإسرائيل.
جاء هذا التحول بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، مع اقتراب هذه الدول من الولايات المتحدة الحليف الأول لإسرائيل. كما تعززت بعض تلك المواقف في السنوات الأخيرة مع صعود اليمين المتطرف، حيث وجد القادة اليمينيون المحافظون في أماكن مثل المجر صلة قرابة مع القيادة اليمينية في إسرائيل تحت ظل بنيامين نتنياهو.
قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كانت أوروبا ملتزمة بحل الدولتين، على الرغم من أنه تراجع عن كونه أولوية في السياسة الخارجية لبروكسل. وقد تأثر بعض هذا بعوامل جيوسياسية أكبر، بما في ذلك الحرب الدائرة على حدود القارة الشرقية. كما أن لامبالاة الإدارة الأمريكية الحالية (قبل الأحداث الأخيرة) بالقضية الفلسطينية والشرق الأوسط عمومًا، إلى جانب الجهود التي بذلتها الإدارات السابقة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، أدى أيضًا إلى انخفاض أولوية القضية في أوروبا.
وما يحصل الآن ما هو إلا تكشّف لهشاشة الموقف الأوروبي. فعلى الرغم من مواقف أورسولا فون دير لاين الداعمة لإسرائيل بشكلٍ مطلق، وبيان المفوضية الأوروبية الداعي إلى هدنة إنسانية، لا يبدو أن هناك تأثيرًا أوروبيًا (جمعيًا) على مجريات الأحداث، إلى الآن على الأقل. وتواجه أوروبا، مع استمرار الحرب وتزايد أعداد القتلى المدنيين في غزة، صعوبة في تحديد كيفية الرد بفعالية على الحملة الإسرائيلية الهمجية.
قد تسعى أوروبا فعليًا إلى السلام، لكنها لا تملك القدرة أو الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك. وقد يمكنها أن ترسم مسارًا دبلوماسيًا أو أن تكون وسيطًا محتملًا، لكنها لا تملك النفوذ السياسي لتحقيق ذلك
وعلى عكس الولايات المتحدة، تكافح أوروبا مع انعكاسات سياستها الخارجية في التعامل مع إسرائيل وفلسطين على تعكير صفو السياسة الداخلية، وتحاول الحدّ من تلك الانعكاسات. فالعديد من الدول الأعضاء تواجه ضغوطًا داخلية متزايدة للتخفيف من موقفها الداعم لإسرائيل والتعبير عن المزيد من القلق بشأن الفلسطينيين.
فقد اندلعت الاحتجاجات المؤيدة لوقف إطلاق النار في معظم المدن الأوروبية الكبرى، من إسبانيا إلى ألمانيا إلى فرنسا إلى بولندا. وقد حاولت حكومات فرنسا وألمانيا، اللتان تحتضنان قاعدة كبيرة من السكان المسلمين، الحد من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، مستشهدة بمخاوف أمنية ومخاوف بشأن معاداة السامية، رغم أن الخوف الأخير آخذ بالارتفاع في أوروبا منذ زمن، ولم يكن مرتبطًا دائمًا بشكل مباشر بالمظاهرات.
سياسات أوروبية داخلية على المحك
وقد يأتي ذلك مع مخاطر سياسية مستقبلية. إذ إنّ الفوضى الحالية التي تعيشها أوروبا قد تؤدي إلى تهميش السكان الفلسطينيين أو المسلمين. كما يكافح اليسار الأوروبي لاجتياز هذه اللحظة، حيث تعدّ الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة بمثابة اختبار للائتلافات اليسارية الهشة في أماكن مثل فرنسا وبريطانيا، التي تخشى أن تصبح هذه الحرب قضية انتخابية، وخاصة بالنسبة للانتخابات البرلمانية الأوروبية العام المقبل، حيث يمكن لليسار الضعيف وغير المنظم حاليًا أن يخلق فرصة أكبر لتصدّر اليمين المتطرف الصاعد بقوة.
وأصبح بعض السياسيين في أماكن أخرى، مثل بلجيكا وإسبانيا يوجهون انتقاداتٍ أكثر قسوة وصراحة للنهج الإسرائيلي. إذ قال رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو: "قصف مخيم للاجئين بأكمله بهدف القضاء على إرهابي واحد، لا أعتقد أنه يمكنك القول إن ذلك ردًّا عقلانيًّا" (في إشارة منه إلى السؤال حول "الرد العقلاني" المفترض من إسرائيل للرد على طوفان الأقصى، الذي انتشر في الإعلام الغربي).
ويهدد هذا الخلاف الداخلي أيضًا بالامتداد إلى مناطق أخرى، وأبرزها وحدة أوروبا ورسالتها بشأن أوكرانيا. حيث سعت القارة، والغرب عمومًا، إلى حشد العالم إلى جانب أوكرانيا، وخاصة في الجنوب العالمي، حيث أدت تداعيات الغزو الروسي إلى تفاقم أسعار الوقود والغذاء في أماكن تعاني بالفعل من الفقر والفوضى. وبالتالي فإن الخطاب الأوروبي الذي لم يتوقف آخر سنتين عن الانتهاكات الروسية للمدنيين في أوكرانيا، والصمت عن ذلك في غزة أو الحديث الخجول عنه، يقوّض المصداقية الأوروبية.
قد تسعى أوروبا فعليًا إلى السلام، لكنها لا تملك القدرة أو الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك. وقد يمكن لأوروبا أن ترسم مسارًا دبلوماسيًا أو أن تكون وسيطًا محتملًا، لكنها لا تملك النفوذ السياسي لتحقيق ذلك بمفردها. وإن كان بمقدورها ذلك، فإن انقساماتها الداخلية قد تجعله مستحيلًا، ولن يبقى لأعضائها، في الوقت الراهن، سوى الكلمات.