كان هذا هو العنوان الذي قرأته في صبيحة يوم عمل باهت، استمرت الأخبار بينما توقف الزمن، صفحة ما يبدو أنها توصلت لهوية القتيلة/الشهيدة تقول إنها ابنة مدينة المحلة الكبرى، ومن هنا تبدأ القصة التي لم ينج منها إلا من جهل بها.
لنسرد القصة من البداية
مدينة المحلة الكبرى هي إحدى أبرز مدن دلتا مصر، تقع المدينة في قلب الدلتا النابض، بالتحديد في منتصف المسافة الواقعة بين مدينتي المنصورة وطنطا، ويتوزع طلابها بين الجامعتين. مدينة صغيرة لكنها لم تكن يومًا هادئة، فهي ذات طبيعة خاصة ليس كمثلها شيء، للمحلة هوية عمالية شكلتها مصانع الغزل والنسيج التي تعد الطابع الأبرز للمدينة، فجعلت منها قبلة لهذه الصناعة ولذلك الفن الذي أوشك على الزوال، خرجت منها أحداث 6 إبريل، الشرارة الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة.
لمدينة المحلة الكبرى هوية عمالية شكلتها مصانع الغزل والنسيج، كما خرجت منها أحداث 6 إبريل، الشرارة الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة
على أرض المحلة يعيش مزيج فريد من السكان. كل فئات المجتمع تسكن تلك المدينة الصغيرة، ما يميزها كذلك أنها مدينة ساهرة بكل ما تحويه الكلمة من سحر وهيام، أغلب مقاهي المدينة ومطاعمها تعمل على مدار الساعة لتخدم العمال الذين لا يعرف عملهم النهار من الليل، وهو ما يسهل المهمة حين تكون زائرًا للمحلة ويداهمك الليل، حينها لن تعدم مقهى يفتح أبوابه ليشاركك ساعات الليل التي تنعدم فيها المواصلات، لتقضي الليل أنيسًا ثم تذهب إلى حيث أتيت، ثم تعود مجددًا، فمن يذهب للمحلة حتما يعود إليها.
السهر الذي تهواه المحلة جعل أحدهم -ساخرًا- يطلق عليها لقب "عاصمة باريس"، ليشتهر اللقب بعد ذلك ويكون للمدينة حظ من لقبها الساخر المفرط في واقعيته، اعتاد المصريون أن يعبروا عما يجول بخاطرهم أو يشغل بالهم بالسخرية، بل تعدى الأمر ذلك إلى أن عبروا عن أحزانهم بالسخرية، حتى وصلنا إلى هذه النقطة المميتة التي تعجز السخرية ذاتها عن وصفها، احترامًا وإجلالًا لعظمة الموقف الراهن، فالخطب عظيم والأمر جلل، يا نيرة!
السيرة في القلوب أبقى
ولدت نيرة في مدينة المحلة الكبرى، عاشت فيها سنوات طفولتها وبعضًا من سنوات شبابها الذي حرمها الموت من اكتماله، في كل الشهور يكتمل القمر بدرًا عند المنتصف، إلا قمر نيرة اكتمل بدرًا وهي لا تزال في العشرين من عمرها القصير، طويل السيرة.
ولدت نيرة في بيت مصري ينتمي إلى الطبقة المتوسطة التي أوشكت على الاختفاء، أو الانتحار أيهما أقرب، لأم موظفة في أحد مصانع المدينة وأب مدرس يشهد له تلاميذه بالسيرة العطرة النقية، يعمل في الصباح مدرسًا وفي المساء سائقًا على سيارته الخاصة ليواجه عناء الحياة ومتطلباتها التي لا تنتهي، بينما تخطو نيرة سنواتها الأولى استطاع الأب المكافح بعمل السنين أن ينتقل بالأسرة من الجمهورية إلى الشعبية!
"الشعبية" ليست وصفًا بل هو مسمى أرقى أحياء المدينة كما هو مدون في سجلات الدولة الرسمية، تقع الشعبية على أطراف المدينة من ناحية طنطا، تمتلئ الشعبية بالأبراج شاهقة الارتفاع حديثة الإنشاء والتي مثلت ملاذًا لسكان المدينة الراغبين في تحسين مستوى معيشتهم، الفارين من زحام الأحياء القديمة، مثل حي الجمهورية مسقط رأس نيرة وأكثر أحياء المدينة امتلاءً بالسكان حد الثمالة.
ربما لا تتعدى نيرة حاجز الـ 160 سم، لكن طموحها يعانق عنان السماء، إن كنت -مِثلي- ممن طالعوا صور نيرة، ستجدها فتاة رقيقة الملامح جميلة المُحيا، ذات جمال ملفت ومشهود لا تخطئه العين أبدًا، فالعين لا تخطئ الجمال وإن عميت، أدركت نيرة فجعلت جمالها سُلمًا تخطو به إلى المستقبل الذي تريده لنفسها، كامرأة ناجحة يشار إليها بالبنان، تملك المال ولا تنتظر أن تطلبه.
إلى جانب دراستها في كلية الآداب بجامعة المنصورة، حيث قتلت، عملت نيرة في مجال الإعلانات إيمانًا منها بجمالها تمسكًا بطموحها، ولتكون نيرة أشرف، اسم تتذكره يومًا، وليست فتاة عابرة تشتم عطرها مرة فلا تتذكره ثانية، حلمت كذلك بعد إكمال دراستها أن تلتحق بمعهد مضيفات الطيران، لكن القدر لم يمهلها.
القاتل يسكن بيننا
محمد عادل، شاب مصري مفرط في العادية ليس هناك أي شيء يميزه، سوى أنه قاتل، طالب بذات الكلية التي تدرس بها نيرة، من سكان مدينتها، ولكن على مبعدة من مسكنها، تحديدًا من منطقة تسمى بـ"محلة البرج" تقع على أطراف المدينة من ناحية المنصورة، وهي منطقة شعبية موطن للعمال والحرفيين والساعين على الرزق بالكد والتعب، أيًا كان العمل.
أي يوم عاشته أسرة نيرة أشرف يوم مقتلها؟ أب يشبه آباءنا جميعًا وأم بسيطة المظهر قهرها الزمن مثل سائر الأمهات!
وكذلك حال محمد، الذي عمل طباخًا في أحد المطاعم ليساعد والدته في تحمل أعباء المعيشة، بعد وفاة أبيه وهو لا يزال في سن حديثه، إلى هنا يبدو كل شيء عاديًا، طالب وطالبه لا يجمعهم أي شيء سوى أنهم زملاء في ذات الكلية، أبناء لنفس المدينة، ولا شيء آخر.
نهاري خارجي، كلية الآداب جامعة المنصورة
ذات نهار، شاهد محمد نيرة، افتتن بجمالها وحاول بشتى الطرق التقرب لها، ولكن محاولاته لم تجدِ نفعًا، إلى أن جاءت الكورونا ولجأ الطلاب إلى إعداد الأبحاث، حينها استغل محمد تفوقه الدراسي فتقرب من نيره بأن قام بإعداد الأبحاث لها، وكل هذا يبدو عاديًا، من المعتاد أن يساعد طلاب الجامعة بعضهم البعض، إلا محمد ظن أن مساعدته لنيرة سبيل لتحقيق أحلامه، تمضي الأيام وتحاول نيرة وأهلها بشتى الطرق إبعاد القاتل عنها، ولكنه لا يبتعد.
ذات نهار آخر، خرج القاتل من بيته لكى يقتل، وخرجت نيره من بيتها ولكن لكي لا تقتل بل لتؤدي امتحانها، قصد القاتل "ميدان المشحمة" القريب من منزله، والذى تتوقف به الحافلات المتوجهة إلى جامعة المنصورة كمحطة أخيرة قبيل خروجها من مدينة المحلة، وخرجت نيرة من بيتها قاصدة إحدى الحافلات المتوجهة إلى الجامعة، والتي ستتوقف لا محالة حيث يقف القاتل، حافلة تلو الأخرى تمر بالقاتل إلا أنه لا يستقل أحدها، منتظرًا تلك الحافلة التي تستقلها نيرة، نزلت نيرة من الحافلة أمام الجامعة، نزل القاتل وراءها، والجميع يعلم ما حدث في النهاية.
قال والد نيرة إن أمها قد أيقظته من النوم ليقوم فيشتري الأشياء اللازمة لإعداد الغداء استعدادًا لرجوع نيرة من امتحانها. أثناء قيامه بما كلفته به الأم، تلقى اتصالًا يخبره أن ابنته قد طعنت بسكين! ليفاجأ الجميع بعد ذلك بمقتل ملاكنا الحارس.
أي يوم عاشته تلك الأسرة! أب يشبه آباءنا جميعًا وأم بسيطة المظهر قهرها الزمن مثل سائر الأمهات، أدميت قلوبنا جميعًا فكيف بقلب تلك الأم التي كانت تعد الغداء لابنتها فأتاها خبر موتها، في هذا الموقف تقف الكلمات عاجزة، لا أحد في هذا العالم قد أحس بما احسته، أرجو أن يكون لطف الله الخفي قد اكتنف قلبها المكلوم.
لا تقتلوا نيرة مرتين
سواء جمعت نيرة بقاتلها علاقة عاطفية أم لا، فهي حرة مخيرة أن ترتبط بمن تشاء، ثم عندما تشعر بعدم الارتياح أن تغادر، ذلك إذا افترضنا جدلًا وجود هذه العلاقة، وإن كان القاتل قد أحبها من طرف واحد فلها كامل الحق أن ترفضه، في كل الحالات: لا إكراه في الحب، ولا قتل!
عندما تحب، تتمنى أن تفترش أعينك لمن أحببت، ليشرب من ماءها ولترتوي أنت من فيض حبه فلا تظمأ بعدها أبدًا، لكن أي حب هذا الذي يجعلك تقتل من أحببت؟ هل أحب محمد نيرة أم أحب تملكها؟ وهل يصلح أن يسمى ما ينتهي بالقتل حبًا مصداقًا لقول الشاعر "ومن الحب ما قتل!"؟ ما علينا فلن يجدي الخوض في هذا الحديث نفعًا، أشعر أن الكلمات تنساب من يدي فلا أستطيع احتمالها، الحدث أكبر من أن تُحتمل تساؤلاته!
حيث توجد المأساة
قبيل نهاية فترة العمل الصباحية، صادفني ذلك الفيديو الذي تمنيت لو لم أره أبدًا، لولا الوصف الذي صاحبه لظننت أنه مشاجرة، وأن شابًا أصابته لوثه فانهال على فتاة بالضرب، بيده وليس بسكين، فلا يقتل أحد بسكين مسددًا كل هذه الطعنات التي يكفي أحدها مفردًا لأن تقتل. بعد 17 طعنه تقدم فرد أمن بالجامعة ليثني القاتل عن فعلته، لكن القاتل أخافه بالسكين، ولا أعلم كيف لشاب يمسك بسكين أن يصيب هذا العدد من الرجال بالخوف!
ترى فتاة تذبح بسكين حاد أمام جامعتها وقاتل يخوض في سيرتها وأم مكلومة تدافع عن ابنتها، فيكون حاصل ذلك أن ترى من يتعاطف مع القاتل
ابتعد الحارس فنزل القاتل وهذه المرة لم يسدد طعنة أخرى بل قام بذبح نيرة! أنا أسف لنفسي ولمن يقرأ عن هذه الكلمات، ولكن هذا ما حدث فعلًا، هذا ما عايشه الكل فأي رعب هذا! وأي رعب عاشته نيرة وهي في لحظاتها الأخيرة قبل أن تفارق روحها الطاهرة جسدها الممزق.
كان عليّ النوم استعدادًا لمواصلة العمل في السماء، لكنني لم أستطع النوم أبدًا، من وقتها إلى حين كتابة هذه الكلمات لم أستطع النوم بارتياح، ثمة شيء لم يعد كما كان، أخذت نيرة معها شيئًا من أرواحنا برفقتها، أن تشاهد ابنة الجامعة التي تخرجت منها تقتل على أعتابها، حيث مررت يوميًا لسنوات طويلة، حيث زحام الطلاب ولا يستطيع أحد نجدتها، ذلك الموت القاسي كافٍ جدًا لأن يوقظ بداخلك كل ما مررت به من موت.
لا تصدقوا القاتل وإن أقسم
اختلال الوعي، إن كان هناك وعي، جعل الناس تتعاطف مع قاتل ذبح فتاة على رؤوس الأشهاد، خرج القاتل في شهادته أمام المحكمة ليتمتم بكلمات تفوح منها رائحة الكذب محاولًا تبرير فعلته التي لا تبررها حتى الأساطير الإغريقية، صدقه البعض ومضوا في الدفاع عنه، ولا أعلم في أي زمن نعيش حيث يبرر القتل، وأي دوافع تبرر القتل، وأي قاتل يصبح هو الضحية! حتى إن فعلت بك ما لا يفعل، أرجوك لا تقتلني إلا عندما أشهر سلاحي في وجهك.
ترى فتاة تذبح بسكين حاد أمام جامعتها وقاتل يخوض في سيرتها وأم مكلومة تدافع عن ابنتها، فيكون حاصل ذلك أن ترى من يتعاطف مع القاتل، صدقًا هذه هي اللحظات التي تتمنى أنك كنت فيها ميتًا أو نسيًا منسيًا، تتمنى أن تفقد الذاكرة أو أن تعيش في غيتو لا يعلم من بداخله شيء عن خارجه.
حادثة مثل هذه، تجعلك تفقد الثقة في كل شيء، الدنيا صغيرة بعد رحيل نيرة، أين الأحلام والوجد والحب! كل شيء يمكن أن يضيع في لحظة واحدة، لا مفر من التعب والشقاء في هكذا دنيا لجمع أكبر قدر من المال ومن ثم إنفاقه فورًا في الملذات، فلا أحد يضمن إن كان سيأتي عليه يوم جديد أم لا، نيرة لم تضمن ذلك، رحلت وتركتنا في خوف.
يا نيرة
قام طلاب كلية الفنون الجميلة بجامعة المنصورة برسم صورتها على سور الجامعة، في المكان الذي قتلت به، لتكون شاهدًا لكل من يمر بذلك المكان، فيدعوا لها بالرحمة، أو حتى يتذكرها شذرًا، وأصدر اتحاد طلاب الجامعة بيانًا حين الرسم لقبوا نيرة فيه بـ"عروس الجامعة"، وصدق البيان.
يا نيرة، يا عروس جامعتي، يا ابنة المآسي والملاحم والجد والهزل، ستتذكرك الجامعة وستبكي عليكِ الطرقات، ستذكرك المحلة حين الغروب والمنصورة حين الشروق، ستظلين ذكرى محفورة في الأذهان، نورًا نهتدى به في ظلمات الحياة، وشاهدًا على أننا نعيش في دنيا مزيفة، لا أمن فيها ولا أمان.