في هذا المقال المترجم عن صحيفة الفورين أفيرز، يبحث الكاتب دانييل ستينمتز جينكينز في نظريّة مكرّسة تسمّى بالواقعيّة السياسيّة، وهي نظريّة تتعلّق بالعلاقات الدّوليّة، ذات منحى سياسيّ بالأساس، كرسّتها أسماءٌ مشهورة ومنظّرون معروفون. تلقي المادّة الضوء على جذور هذه النّزعة اللا ليبراليّة والمتعصّبة، وغير التحرّريّة، ويتعرّض الكاتب لكتاب صدر مؤخرًا يشرح كيف أنّ هذه النّزعة أتت من المؤلّفين الألمان الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة بعد النّازيّة، إذ كانت لديهم انتقاداتٌ للديمقراطيّة الجماهيريّة وتشكّكٌ في الجماهير والنّاس، والمثير للعجب أن هذا حصل بالتوازي وفي ذات الوقت الذي كان فيها علماء الأسلحة النازية المقبوض عليهم بعد هزيمة الرايخ يعملون في مختبرات الـCIA ووكالة ناسا ووكالة الطاقة النووية وغيرها من الوكالات الحكومية الأمريكية المتخصصة.
بالنسبة لرئيس أمريكي يفترض أنّه يفتقر إلى أيديولوجيّة متماسكة، فقد حاصر دونالد ترامب نفسه بأيديولوجيين سياسيّين من الدرجة الأولى. وبدورهم، أبدى المعلّقون إغراءً مستمرًا لما يقرأه مستشارو ترامب. جزء من هذا الفضول ناجمٌ عن الغرابة، والخطر السياسيّ المتصوَّر، من مفكري اليمين المتطرفين الذين كان يعشقهم رئيس استراتيجيّي البيت الأبيض سابقًا ستيف بانون (يوليوس إيفولا، ألكسندر دوجين، وتشارلز موراس، على سبيل المثال) والوعد بأنّ أعمالهم سوف تفسّر التيّارات الفكريّة التي تقود سياسات ترامب.
استخلص أوباما من براينهولد نيبوهر فكرة أنّ المصلحة الذاتيّة تدفع السياسة
ولمّا انخفضت قوة بانون في الإدارة، ظلّت هناك رغبة قوية لاكتشاف الأفكار التي تؤثر عليها. وأحدث مثال على ذلك هو أن الصحافيّ مايكل كراولي قد كتبَ مقالًا كبيرًا بعنوان "لماذا يقرأ البيت الأبيض التاريخ اليونانيّ؟". إذ ذكر كراولي أنّ مستشاري ترامب لديهم هاجس ملحوظ بكتابات المؤرخ اليونانيّ القديم ثيوسيديدس.
إنّ الشيء الذي يجدُه بانون، حتى بعد إقالته "الشنيعة"، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي ماكماستر، جاذبًا في ثوسيديدس هو الواقعيّة السياسيّة. يقول كراولي: "يُعتبر ثوسيديدس أبًا للمدرسة الواقعية في العلاقات الدوليّة التي تنصّ على أنّ الدول تتصرف انطلاقًا من المصلحة الذاتيّة الذرائعيّة، مع مراعاة النّذر القليل للأيديولوجيّة والقيم والأخلاقيّة". ففي عالمٍ تتحدّى فيه الصين الهيمنة السياسيّة الأمريكيّة، يقدم ثوسيديدس لمستشاريي ترامب حكمة خالدة حول كيفية الحفاظ على السلطة استراتيجيًّا "وفقاً للمصالح الذاتيّة المتخيَّلة"، بدلًا من الالتزام بالصواب والخطأ. وإذا كانت هناك سياسة خارجيّة تناسب مع ما نعرفه عن شخصية ترامب، فقد تكون تلكَ إحداهنّ.
غير أنّه في هذه الحالة، من منظور فكري، لا يبدو التدبير السياسيّ العامّ للرئيس باراك أوباما مختلفًا بكلّ هذا القدر. ومن المعروف أنّ أوباما كان مولعًا براينهولد نيبوهر، وهو اللاهوتيّ الليبراليّ في الحرب الباردة وأحد المفكرين الواقعيين السياسيين الأكثر تأثيرًا في تاريخ الولايات المتحدة. استخلص أوباما منه فكرة أنّ المصلحة الذاتيّة تدفع السياسة، وأنّ السياسة هي دائما غير كاملة في "عالمٍ منحلّ".
غير أنّ نيبوهر آمنَ أنّ البشر"مخطئون" مع ذلك، وما زالوا يملكون ما يكفي من البوصلة الأخلاقيّة ليضعوا الشرّ في الحُسبان. ومن المفترض أنّ أوباما اعتنقَ هذه النظرة النيبوهرانيّة العامّة، التي وصفها في عام 2008 بأنّها تعزز "البراغماتيّة على الأيديولوجيّة". وكما هو الحال مع مستشاري السياسة الخارجية لترامب، زعُم نيبوهر أنّه استمدّ رؤاه من مصدر قديم، ولكنّه أحد المسيحيين: ألا وهو القديس أوغسطين.
اقرأ/ي أيضًا: دفع أمريكا لاستحضار صورتها
من الغريب أنّ هاتين الإدارتين المختلفتين كانتا تتقاربان حول تقليد فلسفيّ للواقعية السياسية مع جذور عميقة في الفكر الكلاسيكيّ. ولكن في أيّ لحظة كان هؤلاء المفكرون يعتبرون حتّى كواقعيين؟ وعلى نحو أكثر عموميّة، متى ولماذا بدأ الطلاب ورجال الدولة في الولايات المتحدة في قراءتهم تحت هذا الضوء بالتحديد؟
أصبح كتاب مورغنثاو "السياسة بين الأمم" بمثابتة الكتابَ المقدس للفكر الواقعيّ السياسيّ
يقدّم كتابٌ جديدٌ عن تاريخ الواقعيّة السياسيّة في الولايات المتحدة سلسلةً من الأجوبة المضيئة على هذه الأسئلة. ففي كتابه "ما بعد عصر التنوير: الواقعية السياسيّة والعلاقات الدوليّة في منتصف القرن العشرين"، يشير المؤرّخ الفكريّ نيكولاس غويلهوت إلى أن اعتبار ثيوسيديدس والقديس أوغسطين بوصفهما واقعيين سياسيين ليس مجرد تأويلٍ حديث فحسب، بل أيضاً وسيلة لإخفاء تقليدٍ مضادٍّ لعصر التنوير ومعاد للديمقرااطية في جوهره.
تستهلُّ قصة غويلهوت بجمهوريّة فايمار الفاشلة والعلماء الألمان الذين فروا من نظام أدولف هتلر الوحشيّ إلى الولايات المتحدة أو من تم اختطافهم ومقايضتهم بتقديم الخدمات أو التعرض للمحاكمة على نمط نورنمبرغ. فقد وصلَ العديد منهم إلى "أرض الحرية" مع خوف هائل من الديمقراطيّة الجماهيريّة. يعتقد المفكرون مثل هانز مورغنثاو، وفيليكس جيلبرت، وهانز سبير، وآخرون كثرٌ أنّ الدعم الشعبيّ واسع النطاق لصعود هتلر إلى السلطة أثبت أنّ الجماهير التي حُرِّرتْ حديثًا يمكن التلاعب بها بسهولة؛ إذ إنّ صنع القرار السياسيّ عندهم يشكّل تهديدًا خطيرًا ولا يمكن الوثوق بهم. علاوة على ذلك، فإنّ عدم الاستقرار السياسي الفوضويّ لدى فايمار أثبت لهم أنّ الليبرالية الدستورانيّة (constitutionalism) والبرلمانيّة والسياسة الديمقراطيّة التداوليّة كانت سيئة التكيف مع الأزمات السياسيّة، ويمكن أن تشل التعامل معها.
يرى آباء الواقعية السياسية أن الجماهير التي حُرِّرتْ حديثًا يمكن التلاعب بها بسهول، وصنع القرار السياسيّ عندهم يشكّل تهديدًا خطيرًا ولا يمكن الوثوق بهم
وعلى إثر ذلك، فإن هؤلاء "الليبراليين الدفاعيين"، كما يصفهم غويلهوت، أيّدوا نظريات النخبة والحوكمة الرّشيدة المعزولة عن أهواء الجماهير الجاهلة. وعلاوة على ذلك، فإنهم يعتقدون أن أفضل فرصة للعيش في الديمقراطيات الليبرالية في أوقات الطوارئ السياسية تستدعي اتخاذ قرارات دكتاتورية من أجل تأمين الغايات الديمقراطية الليبرالية. ففي مثل هذه اللحظات السياسيّة الحرجة، لم تكن هناك سوى مجموعة نخبة من رجال الدولة والمثقفين الرشيدين ذوي التعليم والمعارف اللازمة لتقرير ما هو الأفضل للشعب. والحال أنّ غيولهوت واضح: في الوقت الذي وصل فيه هؤلاء الباحثون إلى الولايات المتحدة، كان تفكيرهم في الشؤون الدولية غير ديمقراطيّ في جوهره.
هنا، يدخل الكتاب في لحظة تفكُّريّة للمحاججة. فيؤكد غيولهوت أنّ بعض المفكرين المكرَّسين، وعلى وجه التحديد مورغنثاو، الذي أصبح المنظر الرئيسيّ للواقعيّة السياسيّة في الولايات المتحدة، استلهموا من المفكرين الألمان المعادين لليبراليّة، والإشكاليين الذين ساعد نفوذهم الفكريّ الكبير على إسقاط جمهورية فايمار.
ويدّعي أن الإلهام النظريّ الرئيسيّ لمرغنثاو لم يكن إلا آتٍ من المنظر النازي المؤثّر كارل شميت، الذي قال إنّ الأخلاق ليس لها مكان في السياسة، وانتقدَ القانون الدولي، وفضّل السلطة التنفيذيّة. وإنّ هذه النّظرة الأساسيّة، كما يعتقد غيويلهوت، يمكن أن تكون موجودة في جميع أعمال مورغنثاو، وتحديدًا في أقدم طبعات كتابه "السياسة بين الأمم"، وهو الذي أصبح الكتابَ المقدس للفكر الواقعيّ السياسيّ. ولذلك، يقول غيولهوت إنّ الليبراليين الدفاعيين، مثل مورغنثاو، قد جعلوا من التقاليد السياسيّة اللا ليبرالية والسّلطويّة أملًا لحماية الديمقراطيّة الليبراليّة من أعدائها. وفي سياق الحرب الباردة، كان يتعيّن اتخاذ هذه التدابير بسبب تهديد الاتحاد السوفياتّي المُنذِر بالتهديد.
اقرأ/ي أيضًا: الديمقراطية.. على حافة الهاوية
ولأنّ مثل هذه التأثيرات المشكوك فيها لم يكن من الممكن تحمّلها في الولايات المتحدة، كما يحاجج غيولهوت، فقد كان المثقفون المهاجرون مثل مورغنثاو يضطرون إلى أمْرَكَةِ أسلوب التفكير غير الديمقراطي في السياسة وإخفائه. وساعدتهم الظروفُ في هذا الصدد. كانت الولایات المتحدّة تفتقر إلی التفوق العالميّ بعد الحرب العالمیة الثانیة، وأثبتت عدم جاهزيّتها سياسيًا وفكريًّا لفھم دورھا في النظام العالميّ الجدید. وسارعت معاهد السياسات والجامعات والمنظمات الخيرية، وخاصة مؤسّسة روكفلر، إلى جمع العلماء معًا على أمل خلْق نوع من الأساس النظريّ للتدريب العملي لجيل جديد من موظفي السياسة الخارجيّة والدبلوماسيين والمحلّلين السياسيّين.
وكما يؤكّد غيويلهوت، فإنّ هذا السياق المحدد هو الذي سمح بتلقيح الأفكار لأن تعمل عملَها بين المفكرين غير الديمقراطيين ومختلف المثقفين الأمريكيين المولودين في الولايات المتحدة، الذين أعربوا عن وجهة نظر محافظة مماثلة فيما بعد الحرب العالمية الثانيّة. ويبدو أن تقليديّة الدبلوماسيّ الأمريكيّ جورج كينان، والواقعيّة اللاهوتية لرينهولد نيبهور، والنخبويّة الصارخة للصحافي الشهير والتر ليبمان، لا تختلف على الإطلاق عن النظرة العامة التي يفحصها جويلهوت في فايمار. من هذا المزيج من المفكرين، وُلدت النّزعة الواقعيّة في العلاقات الدوليّة.
ومن أجل أن تظهر أفكارهم على أنّها جديرة بالاحترام، فقد أشارَ مورغنثاو والمؤرخ فيليكس جيلبرت، كما يشير غيويلهوت، إلى المصادر الفلسفيّة التي قد تحظى بالقبول في بلدهم المضيف الجديد. فقد صبغَ مورغنثاو عمله بصبغةٍ أمريكيّة من خلال الرجوع إلى أوراق الفدراليّة وخطب إبراهام لينكولن بدلًا من العودة إلى شميت. وحوّل جيلبرت ماكيافيليّ إلى "أوّل واقعيّ مُحدث"، قدم الحكامة السياسية الرشيدة، عندما كان يُفهَم قبل الأربعينيّات بشكل منتظم على أنه مقدّمة للتوتاليتاريّة.
الإلهام النظريّ الرئيسيّ لمرغنثاو لم يكن إلا آتٍ من المنظر النازي المؤثّر كارل شميت
وهكذا، يكتب غيولهوت بأنّ "إنتاج ‘تقليد واقعيّ يرجع إلى أوغسطين، وفي نهاية المطاف تثريه إضافة ماكيافيلي، وهوبز، أو ثوسيديدس، ساهم كذلك في إخفاء الجذور المباشرة لنظريّة العلاقات الدّوليّة في المُعتمَد الرّجعيّ لفترة سنوات ما بين الحربين". وعلى هذا المنوال، فإنّ الواقعية لا علاقة لها بتقليد طويل الأمد بشأن كيف يخدم رجال الدولة بحكمة المصلحة الوطنيّة. فمثل هذا التقليد ما هو إلّا مجرد حيلة لضمان أنّ النخب، لا الجمهور، هي التي تقرر ما يجري.
بيد أنّ السؤال الدّائم الذي يحدو تأويل غيولهوت هو ما إذا كان المهاجرون الألمان الذين يدرسهم حقّاً سعوا، بوعيٍ، لإخفاء إلهامهم الإشكاليّ عن مواطنيهم الجدد. ورغم أنّهم كانوا قد تلقّوا تعليمهم في ألمانيا وتأثروا بالأفكار الشائعة آنذاك، فبالكاد يبدو ذلك مستغربًا. ومع ذلك، يبدو أنّ بُعبع كارل شميت يكمن خلف كلّ فصل من كتابه، وغالبًا ما يكون ذلك بدون أدلّة دامغة لإثبات تأثيره على أمثال مورغنثاو وجيلبرت. يشعرُ المرءُ أنّ غيولهوت يعتقد أنّ ربط نقدهم للديمقراطيّة البرلمانيّة وتشكّكاتهم في الجماهير بفلسفات النازي السابق هو أمرٌ مطلوب من أجل إقناع القرّاء إلى أيّ حدٍّ هي الواقعيّة السياسيّة معادية للديمقراطيّة فعلًا. غير أنّ المرء يتساءل عن مدى ضرورة الاحتكام إلى علاقة تحرّزيّة إلى حدّ ما بتأثير شميت، وبشكل عام إلى نسلٍ رجعيّ من الفكر الألماني، من أجل إثبات أنّ الواقعيين السياسيين الأميركيين الأوائل كانوا نخبًا لديها تشكّكٌ بيِّن في الديمقراطية الجماهيريّة.
ومع ذلك، فإنّ الأطروحة القائلة إنّ الواقعيّة السياسيّة هي في نهاية المطاف معادية للديمقراطيّة هي أطروحةٌ نيِّرة. لقد كان هناك إحياءٌ للاهتمام بالواقعيّة السياسية منذ 11 سبتمبر، ومن السهل أن نرى آثار ذلك الإحياء: حرب العراق، وقانون باتريوت، وحرب أوباما بالأواكس والدرونز، وخطاب ترامب "وحدي يمكنني إصلاح الوضع". وثمّة اندهاشٌ في الواقع من أنّ أوباما وترامب يعتمدان على ثوسيديدس وأوغسطين. أو لنقل، لماذا شخصٌ لديه هذا الاهتمام القويّ بمُعتمَدات الفكر الفاشيّ الفلسفيّ السياسيّ، مثل ستيف بانون، سوف يبحث عن واقعيّ قديمٍ يرشده ويوجّهه.
الأطروحة القائلة إنّ الواقعيّة السياسيّة هي في نهاية المطاف معادية للديمقراطيّة هي أطروحةٌ نيِّرة وقادرة على المحاججة
يقوم الكتاب أيضًا بفعل الكثير لشرح كيفيّة الاعتماد على تقنيات الكمبيوتر لتحديد الاستراتيجيّة العسكرية والأعمال المتمرّدة التي حلّت محلّ رؤى رجال الدولة العظماء للدبلوماسيّة، التي تميّزت بها الواقعيّة السياسيّة في وقت مبكر جدًا. ولا تزال المشكلة هي نفسها. والمحصّلة النهائيّة هي أنّ العوامّ يوقفون سير العمليّة. والحال أنّ كتاب "ما بعد عصر التنوير" يشرح لنا كيف تصير هذه المشكلة.
اقرأ/ي أيضًا:
ديمقراطية الثالوث الاشتراكي تحاكم الشعبوية.. وزيرة عدل النرويج في فخ العنصرية