يتحدث المفكر الفرنسي الصهيوني هينري ليفي في كتابه "الإمبراطورية والملوك الخمسة"، الصادر عام 2019، عن أهمية استمرار الحضور الأمريكي في الساحة الدولية كقطب مهيمن، محذرًا من تراجع النفوذ والهيمنة الأمريكية، التي بدأت بالتراجع تدريجيا في الساحة الدولية. ويستعرض الكتاب أثر المفكرين والمؤسسين الأمريكيين في تدشين أعمدة هذه الإمبراطورية والإسهامات والتراكمات الفلسفية والنظرية التي قامت وفقًا لها، والتي يرى خلاصتها ونموذجها في عصرنا الحالي. ويقوم الكتاب على ثلاثة أفكار أو محاور رئيسية تتمثل في: الاستثنائية الإمبراطورية الأمريكية، فيما يتمثل المحور الثاني بانسحاب الولايات المتحدة من المشهد العالمي، أما المحور الثالث فيتركز حول صعود الملوك الخمسة "الصين، روسيا، تركيا، إيران، السعودية".
تشكل الولايات المتحدة بالنسبة إلى هينري ليفي حضارة استثنائية ويصفها بـ"المختارة" من بين النظريات السياسية لا سيما الفاشية والاشتراكية
تشكل الولايات المتحدة بالنسبة إلى ليفي حضارة استثنائية ويصفها بـ"المختارة" من بين النظريات السياسية لا سيما الفاشية والاشتراكية. وتمتلك رؤيا ورسالة من خلال المبادئ التي قامت عليها والمتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحق المساوة بين الرجل والمرأة وحرية الرأي والتعبير، التي لم يشهد التاريخ منذ فترة طويلة قيام دولة مماثلة، وأن لها مهمة ووظيفة استثنائية. ويتخذ الكاتب "الأمركة" نموذجًا وذريعة لمحاربة كل ما يختلف معها، معتبرًا أنها عالمية الفكر والمعرفة والقيم والثقافة.
ويسترسل في الطرح السابق ليدعي بكل عنصرية واستعلائية صهيونية أن إسرائيل أيضًا قامت على هذا الأساس، والمتمثل وفقًا لادعائه بأنه يقع على عاتقها واجب عالمي قامت لأجله، ما يجعلها شريكًا حضاريًّا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهما "أمريكا، إسرائيل"، يدركان أنه لا يكفي فقط أن تكون كل منهما دولة بل يضاف إلى ذلك أن لهما رؤية ومهمة ورسالة، بالإضافة إلى أنهما تتقاطعان مع القيم الليبرالية الغربية السائدة في فرنسا.
ويرى أن فرنسا تتشارك في النظام العالمي الغربي بقيمه ومعتقداته، ولكنها لم تتبن على عاتقها أخذ دور مهم في المشهد والمسرح الدوليين، إلا أن فرنسا لا تمتلك رؤية شمولية عالمية. وأعتقد أن هذا الادعاء ينطلق من دافع عاطفي ليس إلا، بسبب شغف الكاتب العلني وولائه لأمريكا، التي يعتبرها إمبراطورية عالمية ذات قيم تحررية وغير طامحة في قيادة العالم.
وفيما يتعلق بالمحور الثاني من الكتاب الذي يتمثل بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، أو ما يطلق عليه مصطلح "التنازل" من المشهد الدولي بطريقة تدريجية، خاصة خلال وما بعد مرحلة باراك أوباما، مرورًا بمرحلة الرئيس دونالد ترامب، اللذين رغم اختلافهما الكبير في سياستهما الخارجية والداخلية إلا أنهما انتهجا نهجًا واحدًا في عدم اهتمامهما فيما يطلق عليه الاختيارية الأمريكية، ويرجع سبب ذلك إلى مفهوم أيديولوجي غيبي وفلسفي عميق بغض النظر عن الإجراءات التي اتخذت من قبلهما "أوباما، ترامب"، وأن عدم انخراطهما واشتراكهما في هذه المرحلة الانعطافية في العلاقات الدولية له أثره البالغ وانعكاساته في رسم خارطة القوى العالمية، معتبرًا أن هذه المرحلة نقطة تحول مهمة في التاريخ الدولي، والمرتبطة بضرورة إعادة إحياء الأمل والحلم الأمريكيين، والدفع بكل قوة للترويج له لأنه يعتبر ذلك الخيار الأمثل لمستقبل العالم، وعدم كسر روابطها مع بنية النظام العالمي.
ويصف الفترة الحالية "حتى عام 2019" بأنها مرحلة غريبة في التاريخ الغربي، وهذا ما دفعه إلى تأليف الكتاب ووضع رؤيته وخلاصة فلسفته السياسية في طياته، وذلك أيضًا نابع من اعتقاده بأن تحولًا جذريًّا مستترًا تحت السطح وقد يخرج في أية لحظة وفي أي مكان، الأمر الذي دفعه إلى تحليل إرهاصات المرحلة المقبلة بعمق معرفي لجذب انتباه صناع القرار في البيت الأبيض الذي يدعي بأنهم غير قادرين على رؤية ما يراه عبر استكشافه للمرحلة المقبلة، التي يصفها بـ "التنازل الميتافيزيقي" لحماية ما يصفه بـ"الاختيارية الحتمية" للنموذج الأمريكي.
ويتمثل المحور الثالث من الكتاب فيما يطلق عليه "الطبيعة السياسية" التي لا تحتمل الفراغ والانسحاب أو الإخلاء، إذ يعتبر أنه تم ملء هذا الفراغ مباشرة من قبل ما يطلق عليه "الملوك الخمسة"، التي تمثل خمس قوى أو دول أو أمم عالمية مختلفة حجمًا ومضمونًا وفكرًا وثقافة وغيرها، والمتمثلة بـ"الصين"، التي يعتبرها تنينًا قادمًا إلى العالم كقوة عظمى، وروسيا التي يصفها بمصطلح "دولة الزومبي" ذات الطموح الكبير، وإيران الذي تطمح لتصبح قوة لها وزنها على الساحة الدولية، و"تركيا أوردغان""، والمملكة العربية السعودية.
ويرى أنها بالرغم من اختلافاتها إلا أنها تتشارك بقضايا مهمة ومحورية، حيث تجمعها أصول حضارية قديمة لامعة ومشرقة بنت حضارات عريقة ومطامح ثقافية واعدة ساهمت في صناعة التاريخ الإنساني. أما العامل المشترك الثاني فيتمثل في أنها انهارت في أوقات وظروف مختلفة، وأن هذا الانهيار كان بلا رجعة، باستثناء الحضارة الغربية التي انبثقت عن الإمبراطورية الرومانية الباعث الأصيل للحضارة الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، التي ماتت وتمت إعادة إحيائها أكثر من مرة في حقبات زمنية مختلفة ومتباعدة. وفيما يتعلق بالمجال المشارك الثالث تحاول ملء الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأمريكي ما دفعها إلى الشعور بإمكانية أخذ زمام الأمور للتمهيد لعودتها مجددًا.
يعكس هينري ليفي في طرحه الفكر الصهيوني القائم على الأساطير المؤلفة للادعاء اليهودي والمتمثل بأن اسرائيل دولة مختارة من الله في مواجهة الإمبراطوريات الخمس
ويستشهد ليفي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي لا يرى في نفسه رئيسًا لتركيا بل يرى أنه الإمبراطور العثماني الجديد. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعتقد أنه مؤسس الإمبراطورية الروسية الجديدة. أما إيران فإن قيادتها ترى أن لها فرصة مهمة لإعادة إحياء أمجادها التي باتت مساهمة بشكل رئيسي في صنع القرار السياسي والعسكري على العراق وسوريا ولبنان. أما بالنسبة للسعودية فلها رغبة في أن تكون محورًا مؤثرًا في الساحة الشرق أوسطية.
يعكس ليفي في طرحه الفكر الصهيوني القائم على الأساطير المؤلفة للادعاء اليهودي والمتمثل بأن اسرائيل دولة مختارة من الله في مواجهة الإمبراطوريات الخمس آنفة الذكر، مستلهمًا أفكاره من الرواية اليهودية التوارتية، فبرغم من علمانيته إلا أنه يعيد الاستشهاد بالرواية التوراتية لتجديد خطابه الفكري المناهض لبقية العالم بما فيه الحضارة العربية الإسلامية. ويتطرق إلى أن إسرائيل "اليهود" يقع على عاتقهم استلام الراية لقيادة العالم. ولا يتنبأ بحتمية الصدام بين الحضارات الخمس والإمبراطورية "أمريكا، اسرائيل"، وإنما يترك الباب مفتوحًا. البعض يرى أنه يعيد طرح أفكار هنتيغتون، وآخرين يرون بأنه يعيد تجميل فكرة نهائية التاريخ لفرنسيس فوكوياما.